في الذكرى الثانية لرحيلها… تفاصيل دقيقة عن الأسطورة صباح
جهاد أيوب
صباح الفنانة والإنسانة والنجمة لا تختلف عن صباح المواطنة، وابنة القرية والبلد، حيث يعتقد مَن في مصر أنّها «بلدياته»، ومَن في سورية أنها سورية، ومَن في أي بلد في العالم العربي أنّها رايته، تشبهه وتعمل على سعادته.
زرعت صباح في شخصها وموهبتها وتصرّفاتها العطاء، والفرح، والمجد، والطيب، والتواضع، وأناقة الذوق والنطق والبوح. حكاية فتاة قروية من أسرة متواضعة كانت بفعل الحقيقة هوية الصوت والفنّ والإنسان، وسنديانة تحتضن الجذور الصلبة، وأرزة لا تعرف الانحناء رغم عواصف الحياة وغدر مَن كانوا حولها، وتاريخ في مسيرة مشرقة لأكثر من نصف قرن حتى غدت إشعاعاً لعطاء لا يعرف الأفول، وتجربة تحتضن الكبرياء، وإنسان يؤمن بخالقه فيتواضع.
إنها جانين فغالي ابنة بلدة بدادون ووادي شحرور، تلك الحالمة بنجمة تصادقها، إنها صباح التي احتضنت أرض القرية بشجرها وترابها، وأصالة الماء مع شلالاتها لتنقلها معها إلى ما وراء البحار بصورة سليمة ثاقبة وقوية عن لبنان.
لبنان الذي أطلق من حروف شبابه حضارات رسمت للغير منارات. لبنان الذي نقشت سواعد بنيه كلمة الحلم حتى جعلوا منه حقيقة. لبنان الذي رسم في طموح أهله ثقافة تعرف قيمة الإنسان، ونثروها أينما حلوا. لبنان الذي قاوم المحتل وقسوة الطبيعة هو الذي أنجب صباح، وصباح هي التي قدّمت لوطنها راياته وصوَره فكانت ألماسة من عبق الجمال، وأسطورة من لحم ودماء، والشمس المتوهجة بنور العمل. صباح كانت للعرب جميعاً حالة نادرة من الفرح الكبير، والفن النظيف والإبداع الجميل. هذا لبنان الذي شوّهته مواقف الساسة والتعصّب عند بعض زعامات اليوم، والفوضى في خيارات بعض قادة الكراسي.
صباح أو الأسطورة الوفية لبلدها وأناسها بكلّ تفاصيل المرأة الحرّة المؤمنة بمجتمعها، وفرح المرارة والتعب والنجاح التي عاشتها ومرّت فيها أدركت قبلنا أنّها تصنع وهجاً لوطن اسمه لبنان، وقصيدة عربية التفاصيل فثابرت بتواضع الملوك، لم تطعن أو تغدر أو تعيش مرض الجحود، كتبت بشغف تاريخها الذي أصبح تاريخاً نفتخر به ونعود إليه كلما ضعفت منارة ثقافاتنا، وضاقت بنا فسحة الأمل حتى نتعلم منها أن الفن الثاقب هو الشاطئ والأمان والقبس.
الصبوحة التي جاهدت وحيدة حتى أصبحت مؤسّسة متنقلة تحمل راية بلدها بيد وراية العرب باليد الأخرى لم تصَب بعقدة الغرور الأهوج، فاحتفظت بطفولتها حتى عشقتها، وأحبت الآخر من دون أن تؤذيه، وقدّرته والتزمت به، ووقفت إلى جانبه، وبالاعتراف بجميله بعيداً عن الأنانية، وقدّمت العون لكل من طرق بابها، وأهدت هداياها لكلّ من وقع في العوز من دون منّة. لذلك علينا أن نسأل أنفسنا ونحن نودّع هذه القامة الكبيرة في ذكرى رحيلها الثانية: هل كنا بمستوى ما قدّمته من محبّة لأجل أن يبقى الإنسان وفياً لإنسانيته؟
هل أدركنا جهودها حيث إنارة دروب الفن المميز أمام أجيال تعاقبت، وأوصلت إليهم أصول الإبداع بجهود مضنية، فساروا عليها بسهولة من دون أن يعرفوا ما صنعته هذه المرأة من تعب وقلق وسهر الليل؟
صباح التي مهّدت الطريق لكلّ من جاء خلفها ومن بعدها، هل شاركنا في الحفاظ على صفحاتها حينما أثقلتها الأيام؟ وهل بادرنا إلى قراءة فعلية لكلّ هذا الثراء المنوّع والرائد في تجربتها؟
الشحرورة الوفية لم تطعن مَن ساندها فاستمرّت بحبّ مصر العظيمة حيث بلورت فنّها وحضورها، مصر التي غنّتها بجوارحها وبكل فرحها وعنفوانها لم تسمح صباح أن تُنتقَد أو تُجرح بكلمة وبوح. والكبير محمد عبد الوهاب قال فيها: «مصر كانت بحاجة إلى صوت يلفّ، وفاكهة زيّ صباح، لا تمنّن أحداً، ولا تزعج أحداً، ولا تتكبر على أحد…».
صباح التي تفتخر وتعتزّ بأن الشعب السوري فتح القلوب لها، واستمرت بالوفاء للدولة السورية والوطن في أصعب الظروف، ولا عجب أن تعلن سورية الحداد عليها ليومين بأمر من الرئيس بشار الأسد، وكان أوّل من قدّم واجب العزاء بوفاتها.
صباح الوفيّة لم تتطاول على الآخر أو تخدش البلاد التي ساندتها وفتحت الأبواب لها أينما حلّت، ففتحت صباح للعالم روحها، ونفسيتها المشبعة بالأمان، وصوتها النادر والمحمّل بالماء والهواء والتراب والصخور والجبال إلى سماء أوسع وأشمل.
قبيل لحظة رحيلها جسداً، صرخت صباح من ألم المعدة، فحضرت بسرعة البرق كلودا عقل ابنة شقيقتها ليل الثلاثاء، ومعها الطبيب الخاص. لا شيء يخيف، القليل من الغازات. تمّ العلاج، وعادت الضحكة، طلبت كوباً من البرتقال من ممرّضتها هند، ثمّ سألت عن كلودا، وعن صديقتها إيدا بكري، وعن جهاد أيوب كاتب هذه السطور الموعود بالحديث معها، ثمّ يأكلان معاً «القريشة»، فكانت لحظات الرحيل. أغمضت صباح العين كي تنام، وفجر الأربعاء 2.45 أسلمت الروح، وكانت الدمعة أكبر من العين.
هل صحيح رحلت قديسة الفرح والعطاء والمحبة صباح عن الحياة؟ نعم يرحل الجسد، وتبقى صفحاتها الذهبية بيننا، وفي كلّ جوارحنا وأفكارنا.
هل صحيح أننا سنستمرّ بالحياة من دون صباح؟ نعم فالموت حق كما كانت تردّد ولا تخافه، لكنّنا فعلاً يُتّمنا من دونها، يُتّمنا على صعيد الشخصي، وعلى صعيد وطنيّ. فصباح لها في ذمة الزمن أكثر من 80 سنة غناءً، وتتصارع مع الأضواء والشهرة، والأناقة، والصوت، والنغم، ولم تعرف غير ذلك، كانت تتسلّى بكل التفاصيل الباقية، كانت الصوت كل الصوت والباقي صدى الصوت، كانت تتمسّك بألا تهمل شمسها حتى غدت الشمس كذبة بين خطواتها. صباح التي أحبّت الناس يوم رحيلها ترجّل الناس البكاء بعفوية، وعانقت أرواحهم الفرح المستمد من صباح حتى كان البحر الهادر الممتد من كنيسة مار جريس المارونية في وسط بيروت مروراً بشوارع الجبل إلى بدادون مسقط رأسها.