كلام من الثقافة

بلال شرارة

أنا أؤمن وأصدّق أن الحلّ في لبنان ليس الاتفاق أو التفاهم على مشاريع أو اتفاقات للإصلاح السياسي والإداري، وليس بإبرام الصفقات التي تُرضي غرور أشخاص الطوائف والمذاهب، وإلا لكان اتفاق الطائف وتفاهم الدوحة قد صاغا حلّ الأزمات اللبنانية. وأنا أصدق أنّ الحلّ ليس اقتصادياً وإلا فإنّ السياسة النقدية التي قادها حاكم مصرف لبنان واستجابة لبنان لشروط البنك الدولي والإصلاحات الاقتصادية التي تضمّنتها توصيات باريس واحد وباريس اثنين وباريس المقبل وتصديق النواب على أنواع القوانين المالية في جلسة المجلس المنعقدة في تاريخ 19/10/2016 كانت وفّرت على لبنان وقوعه تحت عبء دين بلغ نحو 80 مليار دولار والحبل على الجرار .

أنا أؤمن وأصدّق أنّ الحلّ في لبنان يبدأ ولا ينتهي بالاتفاق الثقافي على فكرة لبنان الفكرة أكبر من الدولة على ما يقول محمود درويش وعلى مفاهيم موَحَّدة ومُوحِّدة لـ: الوطن والمواطن والمواطنين والعاصمة والحدود، على ما يؤكد سماحة الإمام السيد موسى الصدر.

أنا لا يمكنني أن أتفهّم القفز على الرأي العام باستعمال مصطلحات كبيرة لا تعمل مؤسسات الرأي العام الثقافية والإعلامية التابعة للدولة والمجتمع على شرحها للناس انطلاقاً من النظام البرلماني الديمقراطي – حيث إنّ كلّ كلمة تحتاج الى شرح مطوّل ومثل ذلك دولة القانون و العبور إلى الدولة وأدوار الدولة ومثلها شرح الدستور والاتفاق على المعاني الدستورية من دون الاستعانة بالمعاجم الدستورية الأجنبية ووضع سيرة النقاشات ومسار البلاغة ! الصباغية لاتفاق الطائف بتصرف الرأي العام باعتها أو الاحتفاظ بمحاضر النقاشات التي رافقت إعداد الاتفاق في المتحف الوطني ! أو في الصالة الزجاجية ! أو في خزنة خاصة في مدخل مجلس النواب.

أنا اليوم لا أتفهّم ثقافة الخطابات السياسية التي تستثمر على استباحة المصطلحات الثقافية لاستدراج الجمهور المنتشي أو المحبَط لتبرير الواقع الراهن وإلقاء تبعاته على الآخرين أو لصياغة الوعود وبناء وصنع الأحلام.

مثلاً أنا لا أصدّق الوعود لأنني أنا لم يعُد أمامي وقت كافٍ من العمر لأراها تتحقّق، وأنا لا أصدّق أنّ البشرية تلد كلّ ألف سنة نابليون امبراطوراً/ قائداً، فهي البشرية رأت بأمّ العين المئة يوم الأخيرة من حياة نابليون، ورأت نهاية الملكية في فرنسا التي وصل الاعتقاد بملك ملوكها لويس الرابع عشر أنه الشمس، البشرية ولاّدة كما الأرانب، تنتج قادة ومفكرين كلّ يوم، أسبوع، شهر، عام، عقد، قرن أكثر من شعر الرأس، ولكن في هذا العالم الدنيء الفاجر يأكل مال التاجر ويبقى الجمهور – ساعده الله – معلّقاً على كلمات سهلة ممتنعة.

أنا لا أثق مثلاً بالحديث عن ثقافة الفساد وضخّ كلام ضخم يقع على رأس الجمهور كجلمود صخرٍ حطّه السيل من علٍ مثل تفكيك منظومة الفساد والمفسدين بالتجاوز على ثقافة الكذب والاستثمار على المثل القائل: إكذب وإكذب وإكذب فلا بدّ من أن يصدقك أحد. أنا مثلاً مهتمّ بأن يتذكّر من يعنيهم الأمر حكاية الراعي الذي كان يستدعي الجمهور بحجة الذئب الذي جاء ليقتل ويأكل خرافه، ثم إذا جاء الذئب يوماً لم يكن بعدُ من يصدّقه من الناس…

الآن يجب أن نبدأ بالحقيقة، بنشر ثقافة الصدق، والممكن لا المتخيّل، بنشر ثقافة الأمر الواقع والمعالجات. نحن، أنا، لا أريد أن نستيقظ من الأحلام على وقع الكوابيس، وأن نصدّق أننا شعب أعظم فيما نحن بلا ضوء، وبلا فرص للعمل، وبلا نظافة و…

نحن بصدق أجرينا الانتخابات النيابية السابقة بالعودة إلى الوراء على أساس قانون الستين، نحن في وطن مهدّد كلّ يوم بالأطماع بثرواتنا، وبإرهاب الدولة الذي تمثله «إسرائيل» جنوباً وغرباً، وبالإرهاب التكفيري شرقاً وجنوباً، وقد ألغينا التجنيد الإجباري ولا تقوم حكومتنا بإقرار موازنة استثنائية للجيش تمكّنه من زيادة عديده وعتاده، ولا يبادر أحد الى فتح اكتتاب في البنك المركزي على مساحة لبنان المقيم ولبنان المنتشر لمصلحة إصلاح الخزينة والجيش، ونبقى نمدّ أيدينا على قارعة العالم لمصلحة جيشنا الوطني وتمكينه من القيام بواجب الدفاع والأمن.

نحن بصدق ليست لدينا سياسة اغترابية تستعيد طاقات وإمكانيات لبنان المنتشر الذي يفوق تعداده خمس مرات تعداد لبنان المقيم، نحن مثلاً نهوّن من وقع أزمة اللاجئين، عفواً النازحين، ونزعم أنهم يوازنون نصف عدد السكان وهم بالواقع وحسب تقارير دولية يبلغ تعدادهم من مختلف الجنسيات حوالى ثلاثة ملايين وسبعمئة وخمسين الف فرد. متى نصدق القول ونقول الحقيقية بأنّ لبنان فيدرالية طوائف ومذاهب وفئات وجهات، وإنه يضمّ جمعيات أهلية أكثر من الاتحاد الأوروبي! وإنّ اللبنانيين كلّ واحد منهم يحمل جنسية أخرى أو يسعى للحصول على جنسية أخرى.

أنا أزعم أنّ الحوار ثقافة، وهو يجب أن يكون مركّزاً على السلم الأهلي، المشاركة، الوفاق. ثقافة قيم متواضعة كسنبلة لأنّ الكبرى على خازوق جعلتنا نصدّق أنّ كلّ شيء عظيم أو مهمّ أصله وفصله فينيقي من عندنا.

إنّ الوطن يبدأ ببناء ثقافة ترتكز على الاقتناع بأنّ أحداً لا يملك الحق وحده باتخاذ القرارات الوطنية، وأنّ أحداً لا يملك حق الفيتو على القرارات الوطنية، وأننا يجب أن نكتب تاريخاً واحداً وكتاباً تأسيسياً واحداً للتربية الوطنية يدرّس إلزامياً في كلّ مراحل التعليم، وفي كلّ المدارس الرسمية والخاصة، خصوصاً شبكات التعليم لدى الطوائف بمذاهبها كلها ، ونهجاً تربوياً عصرياً ونشطب نهج أبو عسلي لأنه لا يحترم العصر ، ثم اننا يجب ان نحترم عقد الطائف والدستور وانّ نمنع من ان يتقدّم عليهما أيّ نظام داخلي حزبي.

ومن أجل تيسير الأعمال وفتح الآفاق الوطنية لا بدّ من إعادة الاعتبار الى وزارة التصميم، الى المشروعات التي صاغها المرحوم موريس الجميّل ومشروع الليطاني وغيره من المشاريع التي رسمها كبير مهندسي العرب إبراهيم عبد العال، ولا بدّ أن نعيد قراءة اقتراحات بعثة إرفد واقتراحات المرحوم د. حسن صعب… لا بدّ بعد ذلك من الاعتراف بأنّ هناك من كان يبيع الوهم مستصغراً عقولنا ومعتقداً أنه فوق الشبهات، وأننا نصدّق أنه سيحضر لنا المنّ والسلوى بسلة، أو بباخرة مقبلة فيما كان في حقيقته ذئباً ينام في فراش جدتنا كما في حكاية ليلى والذئب . ليست الكيدية هي سبب بلوانا وإسقاط المشاريع. السبب أنه لم تكن هناك مشاريع بل كان يتمّ بيعنا أوهاماً، والاستدانة على مستقبل أولادنا. الآمال، الإرادة، الخطط، نظافة الكفّ، السياسة، الاستقلال، السيادة والحرية هي من الثقافة، وهي مصطلحات تحتاج الى مواطن لا تجتاحه الانفعالات بل لغة العقل والى بناء وصنع مسؤولية وإدارة وإرادة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى