هذا ما دار بيني وبين حضرة التاريخ!

نصّار إبراهيم

أمس مساء، أعددت الشاي، وجلست أتأمل ما يجري حولي… أسئلة كثيرة مرّت في رأسي المثقل بالأحداث، غير أن سؤالاً أساسياً راح يلحّ عليّ من بين الأسئلة المهمة كافة وهو: ما هو رأي التاريخ في كلّ ما يجري حولنا، على المستويين العالمي و العربي، والأهم ما يجري على المستوى الفلسطيني منذ قرن من الزمن، ولماذا لا يتدخّل ليساعدنا؟

هل من المعقول أن يكون التاريخ قد أدار لنا ظهره بهذه الطريقة الحاسمة، هل نسيَنا؟

أمام هذه الأسئلة، قلت في نفسي إن الطريقة الأفضل للوصول إلى إجابة شافية، الذهاب إلى حضرة التاريخ نفسه، زيارته شخصياً واستجلاء الأمر منه. لربما هناك خطأ ما.

قيل لي إن التاريخ يقيم على قمة جبل عال وبعيد. حملت أسئلتي وهمومي وأشجاني وأمنياتي وذهبت. اجتزت الوديان والسهوب والتلال، رحت أصعد وأصعد… وأخيراً وصلت إلى الكهف الشاسع حيث يقيم التاريخ منذ الأزل. تردّدت في البداية قليلاً، لكنني حسمت أمري، فما يدفعني إلى الدخول والمغامرة أكثر شدّةً وهولاً ممّا ينتظرني.

في أعماق الكهف كان حضرة التاريخ يجلس على مقعد حجريّ، كان مهيباً يجلّل وجهه الوقار ولحية بيضاء. أمامه سجلّ ضخم، وعلى جدران الكهف سجلّات تؤرّخ للإنسان منذ بدء الخليقة.

ألقيت التحية: «مساء الخير يا حضرة التاريخ الجليل!».

رفع رأسه، أزاح النظّارات عن عينيه، مسحني طولاً وعرضاً، صعوداً وهبوطاً ثمّ قال: «مساء الخير، حيّا الله، مين الأخ ومن وين؟».

بصراحة، لقد أراحني استقباله وأثلجتني كلماته قليلاً وقلت في نفسي: «هيه، هاد طلع بيحكي زينا!»، ثمّ توجّهت إليه قائلاً: «أنا عربي من فلسطين!».

همهم وغمغم لم يعجبني ذلك ثم قال بحزم: «اِرفع صوتك، من أين؟».

رفعت صوتي أكثر: «عربيّ من فلسطين».

ـ أهلاً أهلاً… خير، شو جابك؟

قلت في نفسي: «هي الفرصة الآن أو لن تكون، فتشجّع يا ولد وقل ما لديك بأقل الكلمات وبوضوح»، فقلت: «يا حضرة التاريخ، شو حكايتك معنا، لماذا كل هذا الغضب وهذه الويلات، ألا تعطينا فرصة للتنفّس، من حرب إلى مجزرة ومن تشريد إلى تدمير ومن انقسام إلى تمزيق، ومن استعمار إلى هيمنة ومن خضوع إلى احتلال… يا أخي ألا حقوق لنا؟ أليس لنا في سجلاتك نصيب من فرح وانتصارات؟ يا أخي تحرّك، غيّر وبدّل.. دير بالك علينا شوي!».

ـ انتبِه إلى ما تقول أيها الولد! مَن قال لك إنني أعمل صبياً عندكم… ها؟

ـ عفواً… لم أقصد… وأيضاً لم أفهم ماذا تقصد!

ـ طبعاً لن تفهم. صرلي 500 سنة بفهّم فيكو ومش فاهمين!

ـ لو سمحت قلت بغضب احترم نفسك أنا لست غبياً!

ـ وحمار كمان!

– وبعدين معك!

ـ ولا قبلين… إنت شو بدّك؟

ـ قلت بدّي تتوقّف هالمآسي والمصايب، إنو يتوحّد العرب، وإنو تعود فلسطين حرّة، وإنّو تتوقف حروب وهبل الطوائف والقبائل…

قاطعني ساخراً: «ولك إذا إنتو شلعوطين في الضفة وغزّة مش قادرين تتوحّدوا، جاي بدّك توحّد 360 مليون عربي، و22 دولة عربية… ها! إنت أهبل!».

ـ مزبوط بتحكي. هون بيجي دورك، إعمل حاجة ساعدنا… بدل ما إنت قاعد هون وشغلتك بس تسجّل مصايب.

سرح حضرة التاريخ بعيداً… بعيداً… ثم عاد ونظر إليّ بصمت ثم قال: «بتعرف يا ولد، ذكّرتني بحكاية قديمة، كان في بمدينة رجل عاطل عن العمل، وكان في كل صلاة يتمنّى من الله إنّو يربح في اليانصيب. مرّت سنة، سنتان ، ثلاث وفي كل صلاة كان يعيد ويلحّ ويتمنّى الأمنية ذاتها… في إحدى الليالي، ولمّا أنهى صلاته، وبلّش يتمنّى من الله إنّو يفوز في اليانصيب، هاتفه الله، وقلّو: أيها الرجل، إنني ومنذ سنوات وأنا أستمع إليك وأنت ترجوني وتتمنّى أن تفوز في اليانصيب، وأنا فعلاً قرّرت أن أجعلك تفوز وهذا قرار لا رجعة عنه، إنما اِشتَرِ ورقة يانصيب كي تفوز!».

بعدما أنهى حضرة التاريخ قصّة ورقة اليانصيب، التفت إليّ وقال: «هل فهمت ما أقصد يا فالح؟».

ـ نعم، لقد فهمت يا حضرة التاريخ. فهمت. عليّ أن أشتري ورقة يانصيب فيها شروط وحدة العرب وشروط تحرير فلسطين.

حينئذٍ، ارتجفت لحية حضرة التاريخ من الغضب وقال صارخاً: «هلّق ما فهمت من كلّ هالنقاش غير إنو بدّك تشتري ورقة يانصيب؟ ما فيش فايدة، طول عمرك يا زبيبة وفي… هالعود…!».

ملاحظة ختامية: عندما سمعت بحكاية ورقة اليانصيب، أقسمت حالما أصل أن أشتري واحدة. وفعلاً، توجّهت إلى أقرب متجر وطلبت ورقة، فردّ عليّ البائع: «شو كأنك مش في هالبلد، ما عرفت شو صار؟». قلت: «لا ما عرفت». فقال: «منذ يومين اعتقلوا جميع باعة أوراق اليانصيب في البلد… لا تجيب سيرة لأحد». فكّرت قليلاً، وقلت في نفسي: «فعلاً القوى المعادية لا تلعب، ولن تتوقّف. الحل ليس في ورقة اليانصيب، بل في تأمين شروط المقاومة كشرط للانتصار. هذا هو الحلّ… حينذاك سيكون للحوار مع حضرة التاريخ طعم مختلف .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى