بين عطرين… ضلّ الشاعر قصيدته!
النمسا ـ طلال مرتضى
أمس، وأنا أفتح باب الشعر العظيم، راودتني في القصيدة ضلالة الكنايات، فهربت. كنت حينذاك على بُعدِ بيتين وفارزة من أروائها.
لست أدّعي الفضيلة، بل تجمّلت بما يكفي من المثالية بعدما أوحى لي شيطان الفكرة بأنها نائمة. تركَتْ نصّها مفتوحاً عرضة لعابري السديم، الذين لا يهادون لقومة قائم.
تعلّمتُ من بليغ «البيان» أن أدعو «بالحكمة والموعظة الحسنة»، وحين قرأت بتوهّل، أيقنت أنّ القصيدة الممتلئة، الدانية القطوف، رُوّادها كُثُرٌ وعتباتها واطئة.
قلت لي: حذارِ… حذارِ أن تأخذك غواية التصاوير، فتسقط أسير حبكتها المنتقاة. تأكد أن الشعراء قومٌ أباة. أخذتهم عزّة المعنى صوب جهة الجنون.
كم مرة قال لك عابر الحبر: لا تصدّق. أجسادهم عارية، لا صوف لديهم ولا هم ينسجون، إلا من عزف على نَولِ الحكاية، وتحاشى حواجز الوقفات، ذاك الذي عنده جوازات كسر الوزن ومفاتيح الفرج.
أعرف عندما نادى المنادي بعد منتصف الحلم بقليل: « الله أكثر عشقاً… الله أكبر كثيراً ممن تدّعون».
كانت بلغراد العامرة بربّات الجمال كلّها، تؤمن معي وأنا أتلو خطبة وصولي: اليوم أتممت رحلتي ورضيت بهذي البلاد مقاماً. حينذاك، رَدّني قائل: كُتِبَ عليك الهيام إلى يوم الدين».
هذا حسبي، فَقلب المؤمن دليله. وأنّى تولمون من زاد القصائد، فثمّة وجهة واحدة لِشعلة الشعر المقدّسة.
القصيدة التي داهمتني عنوةً في شارع «ماريا»، لم تكن تشبه مثيلاتها، ظننتها كَكلّ القصائد السالفات فالقصائد في فيينا تأخذك نحو الابتهال، قد رأيتها!
سمعتها، ذات مرّة، حورية، تغزل شارع «عنبر» الدمشقي عن بكرة أبيه لحناً نديّاً، ومثل رمية نرد، لم يزل إيقاع كعب صندلها يطربني: «طق… طق… طق وانتحر»!
لكزني شيطان شعري من ذاكرتي بلؤم العارف قائلاً: «والشعراء يترعهم الجنون، يصفون ما لا يرون».
هي… هي أنت في فيينا، ولست في دمشق… استفق من غيبوبتك!
قلت: وهذا العطر الذي يأخذني نحو الحنين؟
أشار نحو البهو العريض للمبنى القديم معترفاً: هنا غنّت أسمهان السورية «ليالي الأنس في فيينا»، دار الأوبرا.
مشيت نحو اللادمشق، وموسيقى تصدح فتُنشيني. كأنها تعبر شارع «عنبر»، ومن دون قصد رددت ريتمها: «طق… طق… طق وانتحر»!