حول رياض الصلح… حقائق ووقائع تدحضُ المزاعم والأوهام

كتاب «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي» والذي كتبه باتريك سيل بطلب وتمويل من ورثة الصلح، وكما يشتهون، لم يحقق الغاية التي وضع من أجلها، وهي تلميع صورة رياض الصلح وتبييض صفحته وإخفاء ارتباطاته. ولعل أبلغ رد ما أعلنه سيل نفسه، إذ قال إنّ ابنة رياض ـ طلبت منه كتاباً «يصفّق لوالدها».

وعليه فإنّ رد بدر الحاج على الكتاب يُعتبر وثيقة مهمة تكشف حقائق عديدة حاول الكتاب التعمية عليها.

لذلك تنشر «البناء» رد الحاج على حلقات:

بدر الحاج

أخيراً، وبعد مرحلة طويلة من الاتصالات والمقايضات والشروط، صدر كتاب باتريك سيل: «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي»، في ظلّ حملة دعائية ضخمة لم يسبق لها مثيل في وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية، وذلك لمجرّد صدور كتاب فقط. نقول المقايضات والشرط لأنّ مموّلي الكتاب من أقرباء الصلح اتّصلوا أولاً بكمال صليبي لإنجاز المهمة ووقع خلاف بين الجانبين حول النصّ الذي كتبه الصليبي، والذي يبدو أنّه رُفض من قِبل المموّلين. وعلى أيّّ حال أترك للسيد الصليبي شرح الأسباب إذا أراد. وانتقلت الاتصالات إلى أحمد بيضون الذي أنجز بدوره نصّاً هو الآن في طريقه إلى النشر. ثمّ توجّه أصحاب فكرة الكتاب غرباً بحثاً عن كاتب مستشرق يكتب للأجيال العربية الصاعدة عن «النضال من أجل الاستقلال العربي»، فوقع الاختيار على الكاتب الفرنسي جان لاكوتور الذي أنجز أيضاً نصّاً عرضه على المموّلين فرفضوه رفضاً قاطعاً. واندلع الخلاف المالي بين الجانبين، وانتهى بتوقيع لاكوتور على اتفاق رسميّ ملزم يقضي بعدم نشر النصّ تحت أيّ ظرف من الظروف في مقابل تسديد المبلغ المتَّفق عليه.

هذه هي خلفية الكتاب الذي يحمل اسم باتريك سيل كمؤلف. أمّا من حيث طريقة العمل لإنجاز هذا الكتاب، فقد عاون سيل فريق عمل كبير مموّل تمويلاً غزيراً تنقّل ما بين بريطانيا وفرنسا وسويسرا وبلجيكا والولايات المتحدة واسطنبول وبيروت وفلسطين المحتلة، جامعاً الوثائق والمعلومات في محاولة بائسة لتركيب «سيرة نضالية عربية» للسيد الصلح، وذلك في حقبة اندثر فيها الإقطاع السياسي السنّي التقليدي الذي كان الصلح أحد رموزه، لتحلّ مكانه العائلة الحاكمة الجديدة الممثّلة بآل الحريري وأموالهم. وقد يكون من أهداف هذا الكتاب رسالة إلى العائلة الجديدة بأنّ العائلة السابقة هي الأصل في «النضال العربي»، على رغم الشعار الحالي «لبنان أولاً».

تردّدتُ في الكتابة عن هذا العمل لباتريك سيل، نظراً إلى سطحيّته واحتوائه على خليط من الوقائع والاتهامات والاستنتاجات، بعضها صحيح وبعضها الآخر مجرّد تأويلات وروايات مختلفة لا أساس لها من الصحة. والهدف من الكتاب حدّده سيل شخصيّاً في كلمته ليلة الاحتفال بصدوره في بيروت حين قال أنّ علياء الصلح ـ ابنة رياض ـ طلبت منه كتاباً «يصفّق لوالدها».

وهكذا كان، على أساس ذهنية التصفيق أنجز باتريك سيل وزملاؤه هذا الكتاب. بالطبع لأقرباء الصلح حقّ الدفاع عنه، لكنّ المسألة تتجاوز موضوع الشعور العائلي بالخسارة، وهو أمر مبرّر، إذ إنّ الموضوع هو بالتحديد التزوير المبرمَج للأحداث من قِبل كاتب غربي لم تستهوِه بالطبع أفكار الصلح الفلسفية في الحكم وتنظيم المجتمع، بل أمر آخر. فهل يا ترى نجح سيل في تحقيق هدفه وأقنعنا بأن نصفّق؟

إنّ أيّ بحث تاريخي يجب أن يكون من حيث المبدأ موضوعيّاً وموثّقاً، بغضّ النظر عن أهواء الكاتب وقناعاته. بالطبع، يحقّ لأيّ مؤلّف أن يحلّل وفق قناعاته، لكن أن يلصق التهم ويختلق الروايات من دون الإشارة إلى أيّ مصدر فهذا ما يُفقد الكتاب كلّ صفة موضوعيّة أو علمية. وهذا ما ارتكبه سيل، وسوف أتطرّق إلى ذلك في سياق هذا البحث.

من حيث الشكل، لا أستطيع أن أفهم إطلاقاً أن يكون الكتاب مموّلاً، وأن يكون موضوعيّاً في الوقت نفسه. أفهم أن تموّل معاهد دراسات وجامعات أبحاثاً في شتّى المواضيع، لكن أن يُطلب من كاتب إنجاز عمل بهدف التصفيق، فهذا أمر لا يستحق كلّ هذه الهيصة، ولا مجال لوصفه بأكثر من ذلك. وعلى رغم هذا، فإنّني أتساءل: هل يستحق مثل هذا العمل عناء مناقشته؟

باعتقادي، إنّ الكتب المموّلة بهدف تلميع صورة شخص ما، واختلاق دور وطنيّ كبير لا قيمة تاريخية أو علمية لها. والنماذج عن مثل هذه الأعمال كثيرة، لكن على أيّ حال لا تستطيع كلّ أموال الدنيا أن تحجب الشمس بالغربال!

موقف سيل من أنطون سعاده

قبل البدء بقراءة الكتاب، كنت أتوقّع أن يتحامل سيل ومساعدوه على أنطون سعاده بهدف تبرير جريمة «القتل الديمقراطي» بحق سعاده، التي خطّط لها وأصرّ على تنفيذها رياض الصلح وثلاثة آخرين من السياسيّين اللبنانيّين يتقدّمهم حبيب أبو شهلا محامي شركة «تابلاين»، طبعاً بموافقة بشارة الخوري كما سنبيّن لاحقاً. إنّ بوصلة تقييم أيّ كتاب عن رياض الصلح تعتمد بصورة أساسيّة على كيفيّة معالجة وعرض وتحليل الجريمة التي ارتكبها الصلح والنظام اللبناني بحق سعاده ورفاقه. وهذه مسألة لا يستطيع أن يتجنبّها المؤرّخون.

وعلى أساس إيماني بحرّية النقد والاستماع إلى وجهة نظر الآخرين، رأيت أنّه لا حرج في أن ينتقد سيل سعاده وحزبه. لكن أن يعمد إلى التزوير وتقويل الرجل ما لم يقلْه وخلق روايات مختلفة، فهذه أمور وجدتُ من اللازم عليّ أن أفنّدها أولاً، وأن أضعها أمام القارئ لكي يكون الحَكَم. لذلك أستميح القارئ عذراً إذا عدت إلى بعض الأحداث وعرضت لها بالتفصيل وبمزيد من الشرح، لأنّ هذه الأحداث ـ باعتقادي ـ دلالات واضحة جداً تفسّر خفايا عملية قتل سعاده صبيحة 8 تموز 1949، وتُظهر عدم جدّية سيل كباحث. بالطبع يحق لسيل، أو بالأحرى من صميم واجباته، أن يتبجّح ويقرظ الصلح قدر الإمكان ويجهد لأن يخلق الأدوار الكبرى، لكن على الأقل كان عليه أن يستند في بحثه إلى الحقائق والمصادر الموثّقة بدلاً من اللجوء إلى الأقاويل والمزاعم والادّعاءات.

بعد قراءة نصّ سيل، لم أستطع أن أفهم لماذا لم يوضح لنا الكاتب إصرار رياض الصلح «الديمقراطي بالفطرة» ص 745 و«المعلّم الملهم» ص 744 ، وهي صفات أسبغها سيل بسخاء شديد على الصلح، لماذا كان هذا «الديمقراطي» مصرّاً على عدم السماح بعودة سعاده إلى بلده بعد هجرة قسرية امتدّت من 1938 إلى 1947؟ كيف اعتبر سيل أنّه يحق لهذا «الديمقراطي الملهم» أن يمنع مواطناً من العودة إلى أرضه؟ لم يذكر سيل أنّ السلطات اللبنانية الممثّلة بالسفير اللبناني في الأرجنتن يوسف السودا رفضت إعطاء سعاده جواز سفر بأمر من رياض الصلح!

إذا كان سيل يعرف ذلك ولم يشر إليه، فهذا ما يُضفي على كتابه صفة عدم الأمانة التاريخية، أمّا إذا لم يكن يدري فالمصيبة أعظم. هنا، أودّ أن أشير إلى ما ذكره كمال جنبلاط حول منع الصلح عودة سعاده، وذلك في سياق الاستجواب الثالث الذي قدّمه إلى حكومة الصلح في ما يتعلّق بقتل سعاده. ويُذكر أنّ جنبلاط كان في أوائل 1947 وزيراً للاقتصاد. يقول متحدّثاً عن تلك الفترة ما يلي: «حاول سعاده الرجوع إلى لبنان. حجزت عليه وزارة الخارجية مأذونية السفر مدة طويلة بأمر من رئيس الوزراء آنذاك رياض الصلح، وهو عمل محض اعتباطيّ لا يقرّه العرف الدولي والقانون اللبناني… وكان دوماً يشترط السيد رياض الصلح إقصاء سعاده عن دفّة الإدارة في الحزب…» جريدة «النهار»، 9 أيلول 1949 . لقد عاد سعاده إلى بيروت بعد حصوله على جواز سفر بِاسم أنطون مجاعص، وهكذا أُحبطت مساعي الصلح، إذ من المعروف أنّ عائلة سعاده هي أحد فروع عائلة مجاعص الشويرية، ولجأ سعاده إلى استعمال الاسم الجديد في جواز سفره للعودة إلى وطنه.

عاد سعاده إلى بيروت يوم 2 آذار 1947، الذي اعتبره «أسعد يوم رأيته في حياتي»، وألقى خطابه المشهور من على شرفة منزل مأمون أياس في الغبيري بحضور الآلاف من أعضاء حزبه. وعلى الفور، في 13 آذار، أصدر رياض الصلح مذكّرة توقيف بحقّه مدّعياً أنّ السبب هو: «الدعوة إلى اقتطاع جزء من لبنان، والإخلال بالأمن، والتفرقة بين الطوائف». «النهار» 15 16/3/1947 .

السؤال هنا: إذا افترضنا أنّ ما ادّعاه الصلح كان صحيحاً، على رغم أنّ الخطاب هو عكس ما ادّعاه الصلح، فما الضرر في أن يؤمن أي مواطن في أيّ شيء؟

أين حريّة الرأي التي يضمنها الدستور؟ وهل مجرّد إلقاء خطاب يستوجب إصدار مذكرة توقيف استمرّت ما يقارب ستة أشهر؟ لكن بالعودة إلى ذلك الخطاب، يتبيّن لنا أنّ شعور رياض الصلح وحكومته بخطر سعاده وحزبه لا يعود إلى الاتهام الذي أُلصق بسعاده، بل إلى مواضيع أخرى طرحها سعاده في خطابه لا علاقة لها بلبنان ـ الكيان الذي يخاف عليه الصلح.

إنّ ادّعاءات الصلح آنذاك كانت مجرّد قميص عثمان، ذلك أنّ عملية إصدار مذكّرة توقيف لها ـ في منظار الصلح ـ مردود إيجابي لدى القوى المذهبيّة اللبنانية، بحيث يبرز بطل «الاستقلال العربي» وكأنّه أكثر تطرّفاً من التشكيلات المذهبية في عدائها لسعاده وحزبه، وهذا ما يعود عليه بالتمجيد كما وأنّه يسدّد فواتير عدّة لأطراف أخرى إقليمية ودولية.

الواقع أنّ رعب الصلح جاء من عبارات سعاده التالية: «أنتم لستم كالفئات الأخرى التي عملت اعتباطاً متنافراً بعضه مع بعض…. إنّ عملكم لم يكن انتهازياً، لم يكن تحت حماية الحراب البريطانية كما أنّه في الماضي لم يكن تحت حماية الحراب الألمانية أو الروسية أو غيرها». وقوله أيضاً: «نحن أصحاب العروبة الحقيقيّون، وكان غيرنا أصحاب العروبة الباطلة». وأخيراً، وهنا بيت القصيد، حين حدّد بوضوح صارم لا لبس فيه: «إنّ جهادنا يستمرّ، ويجب أن تذكروا دائماً أنّ فلسطين السورية، أنّ هذا الجناح الجنوبي، مهدّد تهديداً خطيراً». وهنا جوهر الموضوع بالنسبة إلى الصلح، حين يتابع سعاده القول: «ولعلّكم ستسمعون من سيقول لكم إنّ في إنقاذ فلسطين حيفاً على لبنان واللبنانيّين، وأمراً لا دخل للّبنانيّين فيه. إنّ إنقاذ فلسطين هو أمر لبناني في الصميم…». جريدة «صدى النهضة»، بيروت، العدد 245 في 5 آذار 1947 .

لقد عاد سعاده في آذار 1947 على رغم معارضة قيادة حزبه آنذاك، تلك القيادة التي حاولت المستحيل عرقلة عودته وتجاهلت الإجابة على رسائله المتكرّرة.

وعندما أُسقط في يدها، أرسلت إلى لقائه في القاهرة وفداً لإقناعه بتبديل مواقفه حين وصوله إلى بيروت. كانت القيادة الحزبية تلك قد حلّ عليها «الوحي»، فآمنت بـ«لبنان الأبديّ السرمديّ». بعضها، مثل نعمة تابت، وثّق علاقاته مع كميل شمعون والسفير البريطاني. وبعضها الآخر كان من المعجبين بأفكار شارل مالك، أمثال يوسف الخال وغسان تويني. نذكر هذه الأمور للتاريخ فقط، فكتابات سعاده حول هذا الموضوع ومعاناته أشهراً عدّة للحصول على جواز سفر واضحة ومتوافرة، ولا حاجة للعودة إليها في هذا السرد السريع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى