الأسطورة والتاريخ
همدان الحاج حسن
منذ بدأ الإنسان يقصّ على أبنائه قصص أسلافه ممزوجة بالخيال والمعتقدات والأساطير، بدأ التاريخ يظهر للوجود في صورته البدائية. إلّا أنّ التاريخ بالشكل العلمي المعاصر ليس مجرد سرد للحوادث الغابرة وتمجيد الأبطال والأمم، بل دراسة للوصول إلى الحقيقة التاريخية وجمع الأصول التاريخية. وليس المقصود بالحقيقة التاريخية الحقيقة المطلقة، لأنّ هذا ليس ممكناً لأسباب كثيرة متداخلة. وتبقى الحقيقة التاريخية حقيقة نسبية، كلما زاد الصدق فيها أصبح التاريخ صحيحاً، وأمّا بشكله القديم فكان التاريخ يختلط بالأسطورة، لأنّ الاسطورة التي ننعتها الآن بأنّها خرافة كانت بالنسبة للمجتمعات القديمة حقيقة مقدّسة، أبطالها ملوك وآلهة، ولم ترد على أنّها خرافة، وهي بالفعل ليست كذلك.
وهناك أشخاص وحوادث «نصف تاريخيّين»، تناقلت الأجيال قصصهم شفوياً من دون تدوين، ومع التناقل كان يضاف إليها كلّ مرة حفنة من خيال، ومع ذلك بقي فيها شيء من الحقيقة التاريخية. فهل كان تموز حقيقة أم وهماً؟ وكذلك إينانا وجلجامش وكرت ودانييل؟
هل كان إبرام «إبراهيم» شيخ عشيرة قصص يهوه ووعوده، أم كان مجرّد رمز أو أنسنة لاسم عشيرة؟ وهل رأى موسى يهوه في طور سينا أم أنّه رأى بركاناً؟
هل قصة الطوفان حقيقية اتّسع خيال الواصفين لها، أم أنّها لم تحدث أبداً رغم ورودها في كافة الميثيولوجيات؟
إنّ الاسطورة نوع من الأدب القصصي تكيّفه العواطف والأحلام والأماني والمفاهيم والمعتقدات الدينية. ليس التاريخ حقائق مجرّدة فقط، ولا الأسطورة خرافة مجرّدة فقط، وبقي الأمر كذلك رغم اختراع الكتابة والتدوين وبقية الحقائق نسبيّة فقط. ولا يزال تاريخ القادة والأمم، خاصة ذو الطابع الديني، كتاريخ الخلفاء والأباطرة والإمبراطوريات التي حكمت باسم الدين ينقصه كثير من الحقائق المطموسة، إذ عمدت المؤسسات القائمة على اختلاق المآثر وطمس المخازي، أو العكس، حسبما اقتضت مصالح الحاكمين، فزوّر التاريخ بشكل خلف المصاعب الجمّة أمام الباحث عن الحقيقة. إلّا أنّ الأسطورة ستبقى أحد مصادر الاستدلال في البحث التاريخي وإنْ لم تكن هي التاريخ.
إنّ تقديرات الفترات الزمنية لما قبل التاريخ الجليّ بشكل صحيح ينتظر الفحوص بالفحم المشعّ، لذا تقدّر الفترات التاريخية القديمة بشكل تقريبيّ لحدّ الآن وحسب الطبقات السكنية مع ربط كلّ المعلومات التاريخية وتنسيقها. ويقدّر بأنّ عصر تل حسونة وتل حلف يشمل الألف الخامس ق. م بكامله، بينما عصر العبيد يشمل القرون السبعة الأولى من الألف الرابع ق. م، ثمّ عصر فجر التاريخ أوروك من 3400 4100 ق.م، ثمّ عصر الكتابة 4100 3800 ق.م.
لقد سكن الإنسان القديم سورية منذ أقدم العصور في ما قبل التاريخ، وتدلّ على ذلك الآثار في الكهوف والتلال وبقايا المدن الدارسة من مختلف المناطق، وأقدم فاس وُجدت تعود للعصر الصوّاني أو العصر الحجري القديم 150 ألف سنة. في تلك العصور كانت أوروبا ترزح تحت طبقات سميكة من الجليد، وبقيت سورية مسرحاً لتطوّر الإنسان القديم. والزراعة هنا بدأت قبل أوروبا بـ15 ألف سنة، وأقدم العظام البشرية وجدت في مغاور جبل الكرمل والناصرة، وتعود لـ140 ألف سنة. وتشكّل أوصاف الهياكل العظمية بين إنسان النيندرتالي والهيدلبيرغي المعاصر. وتبيّن تنقيبات كسار عقيل قرب أنطلياس عام 1938 عن وجود بشري في وادي أنطلياس منذ 60000 سنة. والسوريّون القدماء هم أول من تعاطى الزراعة والسكن في بيوت بدل الكهوف، وكانت البيوت مصنوعة من الطين والآجر والخشب. وأقدم قرى زراعية ظهرت في التاريخ كانت في سورية وتعود للألف الثاني عشر ق.م. ومن أقدم مراكز السكن البشري في العالم أريحا وتل الجديدة وأوغاريت وجبيل، وقد قُدّر عمر القرى السكنية الزراعية في تل المريبط على الفرات بنحو 12000 سنة ق.م.
تطوّر حضاري مستمرّ…
بدأت الحضارة في العالم حول الأنهر، وأقدمها حضارة ما بين النهرين أو «ميزوبوتاميا»، أو بلاد بابل أو بلاد الرافدين أو العراق. بقيت أساطير بابل مجهولة لزمن طويل ما خلا بعض المقطوعات من كتاب برعوت «بيروسوس» الكلداني الذي كتب باليونانية بالقرن 300 ق.م. أما اليوم، وبفضل عشرات الألوف من الألواح الطينية المدوّنة بالمسمارية والمكتشفة في بابل وآشور، فقد زادت معلوماتنا عن هذه الميثيولوجيا. هذه الألواح تشكّل وثائق أصليّة، وبفكّ رموز اللغة المسمارية وقراءة النصوص المكتوبة تبيّن أنّها تختلف كثيراً عمّا جاء في برعوت، وتختلف بتفاصيلها حسب المنطقة التي اكتُشفت فيها، في الشمال أم الجنوب، في الوسط أم في آشور، وحسب زمنها، ومع كلّ اكتشاف جديد نرى كم كان المؤرّخون يجهلون بلادنا وكم نحن نجهل أنفسنا ولا نزال. وكم ظنّوه جامداً متحجّراً خلال آلاف السنين في معتقداته ومؤسساته وفنونه، بينما كان في تطوّر حضاري مستمرّ حتى ألف وأربعماية سنة خلت عندما خيّمت عليه العصور المظلمة!
ـ بابل مدينة اتّخذها حمورابي عاصمة لإمبراطوريّته الواسعة نحو 2800 ق.م. بابل باب إيل إيل الإله. «بابل باب الله»
كلّ التسميات الدينية ممّا نسمّيهم «أنبياء» لها علاقة بـ«إيل» مثل «إسرائيل»: «مصارع» الله، جبرائيل: «جبروت» الله، إسماعيل: «سمع» الله.
ويُقال جبرائيل: «رجل الله»، نشنائيل: «عطالله»، رفائيل: «اليشفي الله»، عمنوئيل: «الله معنا»، ميكائيل: «ملاك الله»، عزرائيل: «روح الله»… وأسماء قرى ومدن بابلية وآشورية وآرامية كان لها علاقة بإيل مثلاً: بدنا ئيل: «بدنايل»: مع الله، سعدنائيل «سعدنايل»: فرح الله، تعنائيل «تعنايل»: فرح الله…
وإنّ ما قيل في الأساطير الدينية بأنّ الله بَلبَل ألسنتهم، هي دعاية محض خرافية، ودعاية يهودية توراتية. وأيضاً ما قيل عن النمرود وحكاية «القوس والنشاب» في مواجهة الله هي أيضاً أكذوبة يهودية تبنّاها الآخرون لاحقاً كما تبنّوا «إسرائيليات» القرآن لتبرير عبادة الإله إبراهيم يهوه الظلّ الطوطم.
ـ نعود لحقيقة بناء برج بابل، فقد بُنيَ هذا البرج على شكل هرميّ من سبع طبقات بعلوّ 66 متراً، ضلع القاعدة 100 متر. يعلو هذا البرج في قمّته «مقام» «سوهورو» أو «مردوخ» على شكل رجل مجنّح يحمل قوساً ونشاباً يصوّب فيه نحو السماء ويقول لسكان الأرض نحن وصلنا إلى هنا! أنتم إلامَ سوف تصلون؟
وسرّ بناء هذا البرج ينطوي على فلسفة بابلية مضمونها ما ذهب إليه نيتشه في ما بعد، بأنّ الحضارة والبنيان وهدف الإنسان في الوجود يُبنيان على شكل هرميّ يبدأ من القاعدة التي تمثّل الخلق «البداية»، والثانية بناء الإنسان، والثالثة النظرة الروحية للكون. لكنّ الفارق بين النظرية البابلية ونظرية نيتشه أنّ البابليين كانوا يعتقدون بأنّ الرّقم 7 هو عدد الكمال بينما نيتشه ركّز على الرقم 3، وعندما أسّس سليمان «الملك» الماسونيّة، اعتمد الهرم كأساس في البناء والرّبط ما بين السماء والأرض بواسطة نجمة داوود.
ووجود مردوخ في قمّة الهرم تعني استواء الإنسان على عرش العظَمة والوصول إلى القمة، والرّقم 7 بالنسبة للبابليّين هو السبع سماوات. ونعلم بأنّ البابليّين كانوا يهتمّون كثيراً بعلم الفلك، وقد بنوا في الموصل أول معهد لعلم الفلك، وقد تخرّج من هذا المعهد في ما بعد إبراهيم ابن أو الكلدانيين «إبرام»، الذي كُلّف في ما بعد من المعهد القيام برحلة إلى مصر لتبيان ما إذا كان في مصر نيزك يشبه «الحجر الأسود» في «بكة مكة»، حيث تبنّى عقيدة أخناتون في التوحيد، وتبنى نظرية «يهوه» الإله «الذي يورث اليهود أرض مصر وسورية الطبيعية»، وجاء دين الإسلام الذي صدّق على هذه «المقولة».
إنّ تبنّي التوراة والقرآن الرقم 7 في نظرية الخلق والتكوين هي أسطورة بابليّة قديمة، حيث خلق الله السموات والأرض وصعد في اليوم السابع «استراح يوم السبت»، واستوى على العرش في اليوم السابع. الفرق الكبير في المضمون والفكر والرؤية بين البابليّين والأديان اللاحقة، أنّ البابليين اعتبروا وجود مردوخ في قمة البرج هو تحليق الإنسان في قمّة المجد والبنيان والعطاء والنظرة إلى الكون والفن والجمال، وأنّ نظرة الأديان «حصرت نمرود في قمة الهرم يتحدّى إلههم ويطلق عليه سهماً «يعود إليه بالدم». شعار الانتقام والقتل والعنف والهيمنة والإجرام، وهذا ما يحصل اليوم، وما حصل من توراة موسى وإبراهيم بالاستيلاء على أرضنا بكلّ وسائل الدم «دم سهم نمرود» ومصارع الله «إسرائيل».
ـ برج بابل، أول عجيبة من عجائب الدنيا السبع، وقد أخذت عنه هذه التسمية وهو المبنيّ من سبع طبقات فيه تتجلّى عظمة الإنسان المفكر المبدع الخلاق، والحضارة الإنسانية بأرقى معالمها بالبناء الهندسي والفن المعماري والنظرة للكون والفن والجمال والوعي والصراع من أجل الأجيال القادمة ورمزية وجود مردوخ في القمة.
تقابله أديان وضعية تُلزم المؤمنين بها بوعود كاذبة وغيبيات لا مكان لها في قرار العقل والحسّ البشري، وإنزال مشروط بالإيمان.
حضارة بابل حضارة سورية بدأت في الألف التاسع قبل الميلاد، والتنقيب وعلم الآثار يكشف ويوضّح مسيرة الحضارة الإنسانية من خلال بابل، فكان التنقيب وسيلة الإنسان القديمة للبحث عن الكنوز الدفينة بما فيها سرقة القبور والمقابر. أمّا التنقيب العلمي فلا يزيد عمره عن ثلاثة أرباع القرن، ورغم ذلك فإنه قد صنع المعجزات في كشف آلاف السنين من الحضارة الإنسانية، وفي 1883 بدأت التنقيبات في العراق، وتوبعت بعد ذلك، كانت البعثات أوروبية وأميركية. وخلال السنوات السبعين الأخيرة نقّب أكثر من ثلاثين موقعاً في العراق تشكّل معظم المدن الرئيسية في العراق القديم، وسبر أكثر من مئة تلّ، وكلّ تلّ هو مدينة قديمة متراكمة الطبقات السكنيّة، لذا نجد المدن في كلّ مكان. المهمّ انتقاء المدينة «التل المنوي تنقيبها»، وهكذا اتّسعت معلوماتنا عن حضارة بلاد ما بين النهرين «أو بلاد بابل» أكثر ما كان يتوقّع المؤرّخون، ولم يكن لديهم قبل مائة عام سوى تلك المراجع القليلة المذكورة في التوراة، وبعض المراجع الأخرى. يذكر هيرودوتس «المؤرخ اليوناني» أنّ بابل كانت ما تزال قائمة في منتصف القرن الرابع قبل الميلاد، وأنّ نينوى دُمّرت سنة 612 ق.م.
وحدة الآثار في كلّ سورية الطبيعية
وحدة الآثار، وحدة التشابه في البناء، وحدة الفكر، وحدة التراث، وحدة الحضارة. فما بُني من آثار وتراث في بابل له مثيله في زغروس والبختياري وفي إيبلا ورأس شمرا وأوغاريت وفي كيليكيا والإسكندرون وفي حلب وحمص وتدمر ومسلات الهرمل التي بناها نبوخذ نصر «11 مسلة»، وقلعة بعلبك التي تشهد الطبقة الأولى السفلى على عظمة الفن المعماري، وبخاصة حائطها الغربي بضخامة حجارته وحجر الحبلة وقلعة دورس وقلعة الشيخ عبدالله التي كان يربطها بقلعة بعلبك سقف من زجاج بشكل «مثلث».
وأريد أن أذكر هنا الرابط ما بين البناء الهندسي والمعماري بين آثار بابل وبعلبك، إضافة إلى كلّ الشبه في الأساس والبناء، خاصة في الطبقة السفلى من القلعة والآثار البابلية في العراق هناك نفقان في قلعة بعلبك، نفق يتّجه من باب القلعة نحو الشرق يمرّ تحت الشيخ عبدالله وله فتحات تهوئة بشكل حلزوني، وهو نفق للاستخدام العسكري، ونفق آخر من باب القلعة باتجاه الغرب هو نفق لتخزين المؤن، وفي نصف النفق تقريباً رسم لنبتة الأفيون وما زالت محافظة على لونها، وكتابة على حائط النفق الشمالي باللغة المسمارية مفادها نحن وصلنا إلى هنا إلامَ أنتم سوف تصلون؟
ومداخل الأبواب في القلعة واضحة، لكن نحن لا نعرف سرّ إقفالها، إضافة إلى آثار جبيل وبيروت القديمة وأنطلياس وصيدا وصور وأورشليم «مدينة السلام الآرامية» في فلسطين وحيفا وأريحا وغزّة. إنّها وحدة متكاملة من الآثار والتراث والنهج والفكر والحضارة.
بابل أم الشرائع
بابل مدينة نبوخذ نصر باني برج بابل وأول من وحّد سورية الطبيعية.
بابل مدينة أورنامو أول مشرّع للبشرية.
بابل مدينة نارام سين أول من وضع أسس الدولة الديمقراطية في العالم.
بابل – مدينة سرجون الأكادي الأول الذي حافظ على وحدة سورية.
بابل مدينة أسرحدون الذي بنى جيشاً عظيماً وصل به إلى الهند.
بابل مدينة حمورابي المشرّع الكبير الذي ما تزال شرائعه محفورة على أبواب محكمة لاهاي الدولية.
بابل مدينة سنحاريب «الهكسوس» الذي اخترع أول عربة نحاسية وغزا مصر وبنى العديد من أهراماتها.
بابل ولد فيها أول من اخترع الدولاب.
بابل ولد فيها أول من اخترع البطارية وكانت شوارعها «تضاء ليلاً» بواسطة البطارية.
بابل اختُرع فيها الزفت والقار لطلاء السفن.
نظلم البابليين عندما نقول «السبي البابلي». الأصحّ أن نقول «الأسر البابلي» ومعاملة نبوخذ لليهود إبّان «الأسر»، حيث عيّن «دانيال» مرزباناً وبنى لهم بيوتاً أسكنهم فيها ما زالت آثارها موجودة حتى الآن «شمال بغداد» دليل على عظمة الحضارة البابلية.
كما لا يجوز أن نستخدم كلمة الساميين، لأنّ هذه الكلمة محض عنصرية وافتراء على النوع البشري، حيث لا يوجد شعب سامي وشعب غير سامي بين البشر. في علم الاجتماع هناك النوع النيندرتالي القديم منذ 62 مليون سنة «أول ظهور للنوع البشري» بعد انقراض الديناصور وظهور الخمس قارّات».
كلمة بلاد ما بين النهرين «الأصحّ منها» منطقة ما بين النهرين، لأنّ البلاد هي سوريـة الأمة والقومية والمجتمع السوري.