أبعد من النفط… تفاهم روسيّ ـ سعوديّ ـ إيرانيّ

يظن الكثيرون من الذين يتابعون أوضاع العالم والمنطقة أن الذي يجري في حلب يخصّ السوريين وحدهم، ويفوتهم أن العناد السعودي في كل الملفات الإقليمية يبدأ وينتهي في سورية. وكانت آخر خرطوشة في بندقيته هي دعم وصول المرشحة الرئاسية الأميركية هيلاري كلينتون وفق تفاهم محوره دعم جبهة النصرة بسلاح نوعي مضاد للطائرات. تبخّر الحلم وصار كابوساً بوصول دونالد ترامب الذي يعتبر السعودية من الأعباء الواجب التخلص منها في السياسة الأميركية، ويدعو للخروج من مستنقع الحرب في سورية بتفاهم مع روسيا وانفتاح على الدولة السورية، وجيشها ورئيسها، لكن بقيت المعركة في حلب هي الساحة المفصلية التي تقرر نهاية العناد، حيث يسقط الحلم.

راهن السعوديون على سلاحين واحد يمثله السعي إلى المساهمة مع اللوبيات الصهيونية وتمويلها، لضمان وصول رئيس أميركي إلى البيت الأبيض يتوافق مع التطلع السعودي الإسرائيلي بمواصلة الحرب على الدولة السورية والاستثمار على جبهة النصرة والسعي لتسويقها بديلاً معتدلاً عن داعش، ورفض التفاهم الروسي الأميركي الذي أبرمه وزير الخارجية جون كيري وعنوانه فصل المعارضة عن النصرة وجلبها للتفاوض السياسي مقابل خوض الحرب على النصرة. والسلاح الثاني هو الضغط على كل من روسيا وإيران في سوق النفط والغاز، عبر حرب الأسعار التي خاضت السعودية غمارها بإغراق السوق بملايين البراميل الفائضة عن الطلب حتى تدنى سعر البرميل من مئة وثلاثين دولاراً إلى عتبة الثلاثين، فاقداً مئة دولار من سعره، ما رتب خسارة يومية على كل من روسيا والسعودية معاً، قيمتها تفوق مليار دولار أي أكثر من ثلاثمئة مليون دولار سنوياً، وترتب على إيران ما يعادل مئتي مليون دولار يومياً أي ما يزيد عن ستين مليار دولار سنوياً، واستقوت السعودية بمخزونها المالي أملاً بانهيار مالي وبالتالي سياسي لروسيا وإيران.

خلال سنتين صمدت روسيا وصمدت إيران وسارتا في حرب سورية بكل ما لديهما من قوة حتى صار المشروع السعودي قاب قوسين من الهزيمة النهائية، فيما فقدت السعودية أرصدتها واحتياطياتها. وجاء قانون جستا الأميركي ليجمّد الباقي، ويقع العجز القاتل في الموازنة السعودية وتبدأ مسيرة التقشف، ورفع الأسعار وتخفيض الرواتب، بينما شهد هذان العامان التفاهم على الملف النووي الإيراني مع الغرب، والتموضع الروسي العسكري في سورية، وتأقلم الاقتصادان الروسي والإيراني مع أسعار النفط الجديدة، رغم قسوة الآثار التي تركتها الحرب السعودية المالية، وهما يريان نفاد الودائع والأرصدة السعودية وينتظران بدورهما صراخ الرياض من الألم، ويعلمان جيداً أن الحرب في سورية واليمن وفقاً لفواتير السلاح الأميركي تكفي لاستنزاف القدرات السعودية.

في اجتماع أوبك المنعقد في الجزائر قبل شهور، حاولت السعودية التوصل لتفاهم يعيد التوازن إلى سوق النفط بطلب التفاهم مع إيران من موقع يحفظ للسعودية حجم إنتاجها اليومي على إثني عشر مليون برميل يومياً، وثبات إيران على المليوني برميل اللذين تنتجهما قبل التفاهم على ملفها النووي وزوال العقوبات بحقها، فكان الرفض الإيراني وتواصل التجاذب سياسياً وعسكرياً ومالياً في كل الساحات، لكن عين السعودية وساعة توقيتها بقيتا في سورية، سواء بانتظار الرهان الرئاسي الأميركي أو بانتظار ما سيجري في حلب.

خسر السعوديون الرهانين فعادوا للتفاوض على سوق النفط وابلغوا الموافقة على الطلب الإيراني، برفع حصة إيران إلى ما كانت عليه قبل الحصار، أي ثلاثة ملايين ونصف مليون برميل بزيادة أربعمئة ألف برميل لتعويض ما فات إيران في فترة الحصار والعقوبات، مقابل خفض الإنتاج السعودي إلى عشرة ملايين ونصف المليون برميل. وتعاونت روسيا بتخفيض إنتاجها ثلاثمئة ألف برميل يومياً، مقابل تقاسم الزيادة في الإنتاج مثالثة عندما يستقر السوق ويزيد الطلب عن العرض. والحصيلة الناتجة معلومة، وهي تراجع في العائدات السعودية بقيمة الربع لمدة سنة تقريباً مقابل عودة السعر للتحسن بعدها. وهذا يعني شيئاً واحداً وهو وقف الإنفاق على الحروب، والتصرف وفق معادلة السعودية أولاً، وما يرتبه من تسليم بالخسارة في سورية واليمن، والانكفاء إلى الداخل السعودي.

خلال السنة الفاصلة عن تحسن الأسعار ستستفيد إيران من زيادة إنتاجها بكمية تعادل بالأسعار الحالية ما يقارب العشرين مليار دولار سنوياً، بينما تتقبّل السعودية خسارة قرابة الخمسين مليار دولار سنوياً، حتى يبدأ التحسّن في السوق والأسعار، وتقول السعودية يوم وقع التفاهم النووي مع إيران وما تضمّنه من إفراج عن أرصدتها، إن المزيد من المال بيد إيران يعني المزيد من المال لحزب الله ولسورية وللحوثيين والمقاومة في فلسطين، أي لما تسمّيه النفوذ الإيراني في المنطقة، مقابل وقف الإنفاق السعودي على الحروب أي ما تسمّيه إيران النفوذ السعودي في المنطقة.

الاتفاقات بين الدول والتغيير في مساراتها لا تتم دائماً بالمسمّيات المباشرة ولا بالملفات الخلافية بعينها، بل تختصرها رمزيات معبرة، كحال العلاقة بين توقيت التراجع السعودي وما يجري في حلب، بعد الذي جرى في واشنطن وتحسباً لما سيجري في باريس، وحال العلاقة بين التموضع السياسي والحسابات المالية لدولة لا تملك رصيداً للحضور في ملاعب السياسة إلا خزائن المال. وهي تنضب، والقبول بالشح فيها مؤقتاً قبول ضمني بالخروج من الملاعب.. .

ناصر قنديل

ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى