«شجرة الفرصاد» لسيف الرحبي… مسح نوستالجيّ لتضاريس الروح
د. محمود شريح
سيف الرحبي في ذكرياته، من سيرة المكان والطفولة في «شجرة الفرصاد» منشورات دار الجمل ، يدوّن تاريخه منذ مسقطه في قريته «سرور» العُمانية وحتى الساعة، وهو قد نيّف على السادسة والخمسين. وسيف الرحبي شاعر منذ صباه حين كان في دمشق وبيروت والقاهرة ثم جولانه في عواصم أوروبا إلى حين إصداره منذ عقدين «نزوى» الفصلية الثقافية عن مؤسسة عُمان للصحافة والنشر والإعلان.
شجرة التوت هذه الفرصاد في لغة أهل عُمان القائمة في «سرور»، قرية الشاعر، تحتلّ ركناً في حوش منزل «مطرح» الذي تؤمّه العائلة أوقات الشتاء، وهي عند الغروب ملجأ العصافير الدورية التي يمزّق ضجيجها السكون، ولكن من غير إزعاج، بل بحميمية آسرة، في العودة إلى أعشاشها ومنازلها التي استوطنتها في غدور الشجر، أغصانها وأعماقها الدفينة. وإلى هذه الشجرة هناك البئر، مكان آخر لألغاز الطفولة وخوافيها. يحدّق كل صباح في أعماق البئر بتيه وهذيان فيرى وجهه على صفحة الماء وكأنما في مرآة، في ظلّ غياب المرايا، فكانت تلك البئر شاهدة على أول انفصال وصدْع كياني يحلّ بحياته.
أهدى الرحبي سيرته إلى خاله أحمد بن محمد الرمضاني زاره للمرة الأولى مع والدته شقيقة الخال في بلدة «السيب» حيث البيوت سعفية وطينية، فالمشهد البحري هناك يبعث بالشاعر الوافد من الجبال والأودية دوار النشوة والغرابة.
ويكرّ الرحبي البصر في تاريخه، فيصدر أحكاماً على جغرافيا الروح، حيث الوديان مرصّعة بالواحات والبلدات، ويلحّ أنه وفق المنظومة العقلانية العلمية والفلسفية التي على نحو من الأنحاء يمضي على هديها ديكارت في قوله ان الحيوانات أسلاف البشر والجذر السلالي في سلسلة التطور العضوي والذهني، فيتساءل صاحب السيرة عمّا إذا كان هناك من حنين يختزنه اللاوعي البشري إلى الجذور والبدايات. ويردّنا إلى التاريخ، إلى صُور العمانية وصلتها بصُور اللبنانية:
الجِمال المترحلة عبر الوادي إلى البنادر من بلاد الشرقية والصحراء، من الجعالين وصور، مركز صناعة السفن العُمانية والبحارة، أولئك المغامرين يمخرون المحيط الهندي إلى الهند وأفريقيا بشكيمة مَن عركته التجارب في مدلهمّ الليالي والمواجهاتُ مع هوام البحر والعواصف وقراصنة المحيط.
صور مجد الصناعات البحريّة العُمانية التي تتآخى في التسميّة والبحر مع صور اللبنانيّة، لا نعرف على وجه القطع، أيهما تسبق الآخرى كحدث بحري في التاريخ، فتلك شهدتْ دلالات الامبراطورية الفينيقية المحتدمة بالدلالات والأحداث الجسام، وهذه من حواضر عُمان التي أرخى عليها الأزل جناحَه وكتب على صفحاتها السديميّة مسوّداتٍ لخلائق وجماعات لاحقة.
من شبه جزيرة العرب انطلقت الهجراتُ حين عصف بها القحط والجفاف، والعصبيّاتُ التي لا ينقصها شدة البأس والعزيمة، لتبني ممالكها في الأراضي الخِصبة.. حتى سركون الأكدي من أعظم ملوك العهود القديمة بإمبراطوريته العظيمة، يقول المؤرخون أن سلالته الساميّة، ترحلّت من شبه جزيرة العرب وبادية الشام… إلخ.
لا نعرف على وجه الدقّة واليقين بالطبع، لكن ما هو أكيد وراسخ، تلك المشتركات العميقة التي تجمع المدينَتين، البحر والسفن المترّحلة بأشرعتها عبر الأصقاع والمحيطات لتبني ممالك الرياح الموسميّة ، والنوارس التي أُحبها، على ضفاف المدينتين والتي أوشكت على الانقراض، كما اللغة العربيّة كمكّون مشترك وعميق على رغم فساد الزمان وانقلاباته المتعاقبة.
وفي سيرة الرحبي حميمية فذّة في وصف طفولته الأولى حين التحق بالكتّاب، وانتقاله للدراسة في مسقط بمسجد الخور بشكل أساسي حيث كان طلاّبه في «مغب» تحت قلعة كوت الجلالي:
ومن ثم انتقلنا للدراسة في مسقط بمسجد الخور بشكل أساسي حيث كان يسكن طلابُه في مغب تحت قلعة كوت الجلالي، ذلك السجن الرهيب الذي كُتب على بوابته الحديديّة وكأنها إحدى بوابات الجحيم في الأساطير الاغريقية أو غيرها. الخارج مولود والداخل مفقود .. على حافة البحر مباشرة كنا حين يأخذنا النوم إلى سهوبه البعيدة، يبقى البحر، الحارس والساهر، وسط ذلك الظلام الموحش الذي تقطعه أضواء السفن العابرة إلى المحيط الهندي والعالم، غير بعيد عن قرية حرامل البحريّة، حيث أخبرنا أحد الصيادين الذين كانوا يأتون بالسمك الطري كهدية لطلاب العلم البعيدين عن عائلاتهم.
كنا ننام على فراش البحر بين أمواجه وحورياته، أسماكِه ومخلوقاته السابحة في الشفافية والرهافة وسط جزائرها المرجانيّة، التي كانت تقطعها سفن الأسلاف محمولة على حلم السعادة ورَغد العيش في الشرق الافريقي. كنا في الصباح نقف على الشاطئ الذي يشكل خليجاً بين الكوت والنتوء الجبلي المقابل، وقد قذف البحر من أحشائه حيوات مختلفة، منها ذلك الطرح الأبيض القّرنباح وهي تغيورة بني رمضان الذين ينتمي إليهم الخال وبقيّة الأقارب. يقذف البحر من أعماقه البعيدة حيوات وأشياء مختلفة بشريّة وحيوانية، وما خلفّته السفن الكبيرة من علب وأطعمة وفواكه وغيرها طافية على الشاطئ، نقف محدّقين في هذا الحطام البهيج، كما في طابور كوت الجلالي، في المحكومين بالأعمال الشاقة، حيث يحملون الخيش والصناديق المليئة بالذخائر والأسلحة، المليئة بالأطعمة والأغراض الأخرى. يحملونها من قعر الأرض الرمليّة متسلقين الدرج الأكثر مشقة من العقاب الجبليّة الضيقة حتى يبلغون بها بوابة القلعة على ذروة ذلك الجبل البحريّ الذي يشبه جزيرة صخريّة وسط تلاطم تلك القسوة للأمواج المدلهمّة بليالي ذلك العذاب البشري الذي يفوق الوصف… فضحيّة ذلك العقاب القاسي، مهما كانت موهبة البلاغة لصاحبها والدقة وجموح الخيال، تعجز عن تسلق الدور الأول في طبقات المبنى الأسطوري للشقاء والألم.
ولا يغيب عن بال الرحبي أيامه مع محمد المخلدي في حلقة الوادي حيث أتى على ديوان الشعر العربي في عهوده المختلفة بذائقته الانتقائية الرفيعة من غير ادعاء ولا غاية منفعية عدا غاية المعرفة وجمال الشعر في حدّ ذاتهما، في خضمّ تلك النشوة الروحية وأنغامها السابحة في فضاء الوادي والأفق المحيط فكان صاحب السيرة يصغي للحظة إلى انشاده بقصيدة عمر بن أبي ربيعة التي تتوسل السرد عبر الصورة الشعرية والعبارة المكثّفة.
ويعيدنا الرحبي إلى ومضات الذاكرة وفق الرواية الشفوية:
وحدثني أبو محمد محمود بن زاهر، بان هناك صُدف نادرة تحصل لتظلّ مضيئة في ذاكرة السجين، خاصة ذلك المسكون بشغف المعرفة، بان تكون هناك قصاصات جرائد ومجلات، يلفّون بها الأغذية التي تُبقي السجين على رمق العيش والاستمرار، من أجل أن يأخذ العقاب مجراه الزمني، والموت في هذه الحالة خلاص… يحصل أن تكون تلك المِزق والقصاصات حاملة ضوء معرفة أدبيّة أو دينيّة لم ينتبه إليها الرقباء.
وهكذا قرأ محدثي في تلك الفترة المظلمة، لشعراء مثل زهير ابن أبي سُلمى، وشيء من شعر المقاومة الفلسطينية التي بدأ صوتها في تلك المرحلة، وغيره… وكأنما ضوء المعرفة والروح، من صفاته تلك القدرة السحريّة في اختراق أعتى الأماكن حصاراً ومنعاً، ليس في الجلالي فحسب، وإنما في معظم السجون العربيّة، كما حدثني عبد اللطيف اللعبي وقاسم حداد وعبد القادر الشاوي وكتب كثيرة، لطارق عبد الحكيم والأكثر حداثة وفظاعة لياسين الحاج صالح ومصطفى خليفة ومفيد نجم وفرج البيرقدار و.. إلخ.
رواية الرحبي، هي رواية المسح النوستالجي لتضاريس الروح.