بعضٌ من لون… بعضٌ منّي… وكلٌّ من خلاص!
النمسا ـ طلال مرتضى
ثمّة ما قد يثير الاستغراب في ما يُطالعك الآن. ولا عجب، فالقول السائد: «الجنون فنون» هو بالنسبة إليّ… «الفنون جنون»!
ففي منفايَ الأرستقراطي الرخامة. حيث الشارع المتفرّع من «شتراسي جورج ماريا»، الذي لا أعرف من يَكون جورج ماريا، ثمة مرسم صغير مهجور. في ركنٍ منطوٍ على أناه، تُطالعك نافذة زجاجية كبيرة يتيمة. عُرضَت عليها لوحة تشكيلية من قطعتين ولونين: الأحمر والأبيض فقط وكأني بهذه اللوحة وضعت عن عمدٍ هنا، كغانيةٍ يستبيحُ حرمتها العابرون من دون رادعٍ أو منازع.
لعلّ البعض منّا تأخذهم هموم الحياة فلا تعنيهم اللوحات ولا يعنيهم من هذين اللونين: الأحمر والأبيض، سوى ألوان علبة المالبورو. لكنّني أقول إنها عين الرائي اللاقطة، الراصدة التي جذبت نظري باتجاهها عندما رأيتها في المرّة الأولى، وقفت مدهوشاً في حضرتها، كان ثمة شعور سلس ينسلّ منّي ليتقاطع مع خيوط تركيبتها المبهمة، والعكس كذلك.
حينذاك، تَلمّستَني كي أبدّد خيوطاً غير مرئيةٍ حريرية الملمس، حرارية الحريق، التفّتْ وتشابكت مع حبالي الصوتية، فصارت بالمحسوس أشبه ببيت عنكبوت بني على مطالع شهيقي.
ولأن اللوحة التشكيلية هي انعكاس ومرآة لقارئها. خصوصاً إذا أمكنه أن يمسك مفاتيحها، وينحو نحو فكّ أكواد مضمراتها وبيت سرّها. فما الرسم إلا تعبير عميق عما هو مخزون داخل النفس البشرية من انفعالات وأحاسيس.
من وجهة نظر عامة، أُسلّم بذلك دونما نقاش. لكوني بالادّعاء أتلمس بعض دلالات اللون، ومُراقِبٌ بالفطرة حراكَه الفنّي الذي يتفاعل داخل إطار أيّ عمل تشكيلي، من دون الوقوف على هويته.
وخلاصة الأمر أنّي لم أجد وسيلة اتصال أو آلية تُوصل إلى فكّ لغز المرسم المهجور، للوقوفِ على حقيقة هذه اللوحة الموسومة برسم الانتظار، كأسيرةٍ خلفَ زجاج النافذة.
وعَودٌ على ذي قول، قد لا تجدون في الحكاية ما هو لافت أو مهمّ، كي أذهب بكم نحو كل هذه الجلجلة. لكنّني أحيل عليكم السؤال الذي لم أجد جواباً مقنعاً له: ما الذي يربطني بتلك اللوحة المعزوفة؟ ما الذي يدفعني لأفزع يومياً لرؤيتها أكثر من ثلاثِ مرّات على الأقل، والوقوف في حضرتها متأملاً لدقائق؟
وكأني بها، حالة تفريغ لشحنات متراكمة من الأعباء اليومية الذي أعيشها. على رغم إدراكي أنني أُبحر في حضرتها بحالة من اللاوعي، تنقلني إلى أقصيةٍ أمارسها ولا أقبض عليها.
هل يعقل أن لوحةً أسيرةً تستطيع أن تبثَّ كل تشنجاتها فتسلبَ روحي، وتزوّدني بجرعة أدرنالينية عجيبة فأتنفس بعمق، حتى أصلَ إلى نشوة الاختناق في آن؟
هل من أجوبةٍ شافية أتلقاها؟
جوابٌ واحدٌ يوحي بردٍّ لكل هذه الأسئلة إنه في اللوحة ذاتها، لطشة فرشاة عبثية تتلظّى. وربما في تدرّجات اللون وانعكاساته أو انكسار الخطوط. لكن المبهم الذي لم أجد تفسيراً له، أنني كلما زرت هذه اللوحة، أقرأ فيها شيئاً جديداً، وأرى موضوعاً ما لم أره خلال الزيارات الثلاثين السابقة! من هنا جاء سؤالي الحتمي: هل تعيش اللوحة الحبيسة العبث اليوميّ الذي نعيشه؟ وبالتأكيد الجواب: لا أدري.
وهنا أُسلّم بالشعور الذي يجرّني نحو الاعتراف، بأنني أعيش الآن حالتين من الأسْر. الأولى حبس اللوحة خلف الزجاج، والحالة الأخرى حبسي أنا بها.
ألا يكون هذا حافزاً رئيساً كي أدعوكم إلى مشاركتي في البحث عن درب خلاصٍ عبر وضع هذه اللوحة على طاولة التشريح لاستئصال آفة الغواية؟
هذه اللوحة قد أنجزَتْ في عملين منفصلين بقياس 70/140 للقطعة الواحدة، قماش مشدود، تشريب إكرليك، دمج كلّي، شكّلتا معاً مربعاً متساوٍ 140/140 . الأساس أبيض مُشبّع، مغلّف بطبقة من لونٍ أحمر كلّي أقرب إلى القاني المكثّف، لم يستطع ـ أي اللون الأحمر ـ منع اللون الأساس الأبيض من التفشّي على شكل بؤر لافتة. لا يمكن لأيّ قارئ عارف تجاهلها قطعياً، شكّلت مساماً تنفسية على امتداد جسد اللوحة.
وهذا ما يسوقنا نحو بعض الشروحات للوقوف على دلالة الألوان والتي تشي إلى أنّ احتلال الأحمر للوحة بشكل كلّي. ما هو الا رجع ثورة داخلية يعيشها مبدع العمل، تنطلق في مسارين متضادين بحامل اللون الأحمر:
الأول يذهب نحو رصد حراك مخيف حدّ الرعب، ربما مرجعه حالة كبتية قابلة للانفجار في أيّ لحظة وقد تودي بمَن حولها. لأنّ الأحمر الكلّي هو حالة من الغضب والهياج والحبّ والشغف.
ثمّ أن هناك ما هو كاسر للاحتمال الأول، بدلالة البؤر البيضاء في جسم العمل والتي تنمّ عن حالة هدوء في جوّانية الشخص كبنيةٍ أساسية قائمة. وأن الأحمر الذي يغطّي مدى الأبيض، ما هو إلا ثورة مغايرة حاملها الحبّ والرومنسية الدافئة. وهذا انطباع أوّلي مبنيّ على قراءة أولية سالفة للبنية التشكيلية.
وبالمجمل، أيّاً يكون هذا الحراك فهو ثورة بكل معاييرها، ثورة متفلّتة وشاملة بدافع خروجها خارج مدى اللوحة غير المؤطرة. ثورة انطلقت ترجيحاً إلى خيارِ ثانٍ حامله الحبّ. بعد الخرق الذي حصل في منتصف اللوحة الأخير، والذي تأتّى على شكل انفجار مركزي في قاع اللوحة، غباره أبيض كلّي، سريع الانتشار، ليحتلّ جزءاً كبيراً قارَب منتصف اللوحة على هيئة غليان لتذويب الأحمر ومُماهاته في البياض، وهذا ما جعل الفرصة مواتية لظهور بعض ألوان لم تكن حاضرة قبلاً على شكل هالات سوداء ولطاخات رمادية كألوان الترسبات القاعية.
حاولتُ إيجاد منفذاً للخروج إلى ماهية السطح إنما من دون فائدة. مُنيت بهزيمة أمام حالة انصهار اللونين الرئيسين، لكن الأمر بقي أسيرَ الحالة الراهنة، حين سارع الفنان المنقسم في جوّانيته، إلى وضع خطّ أبيض رفيع، كفاصل يحدّ من صعود الثورة البيضاء المتجهة نحو هرم اللوحة الأحمر.
وبالتاكيد، لا بدّ أن أشير إلى أن الحرب القائمة بدلالة اللونين الأحمر والأبيض، رمزية الحبّ الجارف والحبّ المتعقل الهادئ، أو بين الشرّ الأحمر وبين الطيبة البيضاء، والتي يرجّح غلبة الأحمر بكلا الحالتين، لصعوبة إنصاره وتفشيه، ما جعل محاولة اللون الابيض فاشلة عندما حاول كسر الجدار العازل ـ أي الخطّ الأبيض ـ في زاوية ضيقة من اللوحة. عبر ارتدادات حالة الغليان والفورة البيضاء في قاعها.
في اللوحة الموقعة بِاسم «suad bijedic» سوآد بيجديك»، هذا الفنان الذي جسد فكرة الحياة المتجددة، قائمة على تناقضات الصراع الأزلي بين الحبّ والحرب.
هي أنا، أو أنت لو شئت.
أما السؤال الأهم في كلّ هذا. إلى أيّ الضفتين ينحاز الرائي والمتلقي، أو أنا تحديداً؟
بتلقائية، روادتني فكرة خبيثة، ماذا يحصل لو قُلِبَت اللوحة رأساً على عقب، وصار أعلاها أسفلُها، هل ينتصر أحد الفريقين؟
أجدُني مرتبطاً بهذه اللوحة وإن لم أكن طرفاً في موضوعها. لكن جلّ ما أبتغيه، أن أجد سبيلاً لأتحرّر منها!