تاريخنا لا يكتبه كتبة يتقاضون المال لقاء نصوص مزوّرة…!

كتاب «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي» والذي كتبه باتريك سيل بطلب وتمويل من ورثة الصلح، وكما يشتهون، لم يحقق الغاية التي وضع من أجلها، وهي تلميع صورة رياض الصلح وتبييض صفحته وإخفاء ارتباطاته. ولعل أبلغ رد ما أعلنه سيل نفسه، إذ قال إنّ ابنة رياض ـ طلبت منه كتاباً «يصفّق لوالدها».

وعليه فإنّ رد بدر الحاج على الكتاب يُعتبر وثيقة مهمة تكشف حقائق عديدة حاول الكتاب التعمية عليها.

لذلك تنشر «البناء» رد الحاج وهذه هي الحلقة الأخيرة:

بدر الحاج

لقد ذهب رياض الصلح إلى عمّان في ظروف سلبية جداً بالنسبة لنفوذه السياسي في لبنان، حيث تواصلت تداعيات الزلزال الذي أحدثه قيام دولة «إسرائيل». وتعاظم العداء بينه وبين الرئيس بشارة الخوري، بحيث فقد سيطرته على الآلية الحكومية وخسر منصب رئاسة الحكومة في شباط 1951. ولم يكن الخلاف بين الخوري والصلح بسبب السيطرة الواسعة لشقيق رئيس البلاد الفاسد الشيخ سليم الخوري، الملقّب بالسلطان، كما يحاول سيل تفسيره، بل إنّ الصلح كان آخر من اعترض على تصرّفات السلطان سليم، بدليل أنّه عندما كان يُلام على عدم تحرّكه لوضع حدّ لتصرفات شقيق الرئيس، كان يقول: «إنّي أفضّل أن يشتغل هؤلاء بالاستثمار، وألّا يقفوا في صفّ الاستعمار». منير تقيّ الدين، الجلاء، دار النهار، بيروت 1997، ص 70، الحاشية الثانية .

إنّ التبدّلات السياسية في دمشق، والانقلابات التي أطاحت بأصدقاء الصلح من السوريين، ومجيء خالد العظم إلى رئاسة الوزراء السورية والقطيعة والكره الشديدَين بين الرّجلين، أسهمت أيضاً في دفع الصلح إلى مهمّة أخرى مع الملك عبدالله. لقد ذهب الصلح إلى عمّان، ولم يقع في شرك أعدّه الملك عبدالله كما يدّعي سيل. فالملك كان يُعتبر قمّة في الخيانة، خصوصاً بعد أن نشر المقدّم عبدالله التلّ، الضابط في الفيلق العربي بقيادة غلوب باشا في آذار 1950، الوثائق التي تُدين عبدالله بالتعاون مع «الإسرائيليّين» ومنع الفيلق العربي من الاشتباك مع الصهاينة.

لكن رغم كلّ ذلك، ذهب الصلح إلى عمّان، ليس للسعي إلى عمل عسكري عربي مشترك ضدّ «إسرائيل»، كما افترض سيل بقوله: «لا بدّ أن يتمسّك ببصيص أمل في أن يكون عبدالله قد ندم وغيّر رأيه، ويرغب الآن في العودة إلى الصف العربي بطريقة أو بأخرى». ص 723 . والندم ظاهرة شائعة بين السياسيّين العرب، فهم مع الشيء وضدّه، مع «إسرائيل» وضدّها، مع العروبة ومع الانفصال والكيانية. بالطبع، فسّر سيل اللقاء بين الرجلين «الاستقلاليّين» بأنّه لأجل فلسطين، وبشّرنا بأنّه كان ناجحاً، «وخلاصته أنّ عبدالله طلب مساعدة الصلح لدعم خطة عبدالله عربياً»، والأرضية بنوع من الاتحاد بين الأردن والعراق، وكلّ ذلك في سبيل فلسطين. ص 724 . ويكرّر سيل رواية أنّ الصلح أسرّ إلى صحافي كان برفقته أسرار ما دار في لقاءاته مع عبدالله ونجاح مهمّته، لدرجة أنّه اتصل بزوجته فرحاً بنتائج اللقاء. لكنّ السؤال البديهي الواقعي الذي يطرح نفسه، هو: هل كان الملك عبدالله بحاجة إلى الصلح وهو في أسوأ وضع سياسي في لبنان كي يساعده في إقناع العرب؟ إنّ أيّ كاتب أو مطّلع لا يمكن أن يخطر على باله أنّ الرجلين «غيّرا رأيهما» بالصهاينة، وأصبحا يريدان القيام بعمل عسكري ضدّ «إسرائيل»!

إنّ ما يؤكّده تقرير بريطاني مؤرّخ في 16 تموز 1949، ومرسل من بيروت إلى لندن أنّ رياض الصلح قد رتّب الزيارة إلى عمّان بهدف إغاظة رئيس الجمهورية ورئيس حكومته بعد أن أُزيح عن الكرسي، ويضيف التقرير أنّ حملات الصلح على الرئيس الخوري ومقاطعته له وتصريحاته العنيفة ضدّ الرئاسة أمر «تعتبره الأوساط الدبلوماسية هنا بمثابة إعلان حرب». الخارجية البريطانية ملف رقم 25/1016 EL 91434/371 Fo .

هنا، على الأرجح أنّ المحادثات تطرّقت إلى أن يسعى الصلح مع أصدقائه المصريين والسعوديّين لتجاوز الاستمرار في إدانة عبدالله لخيانته بعد حرب فلسطين، على أن تعود الجامعة العربية إلى وضع جديد بحيث يتوقّف عبدالله عن المطالبة بسورية الكبرى، المشروع الذي يؤرّق المصريّين والسعوديّين واللبنانيّين والسوريّين، كلّ ذلك مقابل الاعتراف بالسيادة الكاملة غير المشروطة للأردن على ما تبقّى من فلسطين بما فيها القدس، والدخول في مباحثات سلام مع «إسرائيل»، وبذلك يعود الصّلح قوياً إلى الساحة اللبنانية. وهذا ما يفسّر قول وايزمن في مذكّراته إنّ «الصلح كان في مهمة اتصال سلميّ مع اليهود حين اغتيل».

أما تفسيرات سيل لمقتل الصلح، فتعتمد الأسلوب نفسه الذي اعتمده لتفسير أسباب الزيارة. والمشكلة التي واجهها سيل تتلخّص في أنّ الرجلين، عبدالله والصلح، هما من جماعة بريطانيا، وبالنسبة للصلح فإنه كان دوماً «متعاوناً للغاية مع حكومة صاحب الجلالة»، كما جاء في تقرير بريطاني مؤرّخ في 17 تموز 1949، ومرسَل من عمّان إلى الخارجية البريطانية. 24/1016 EL .

إذن، كيف يمكن تبرير قتل البريطانيين الصلح وهو من الرجال الأوفياء لهم طيلة سنوات عديدة؟ لا بدّ في هذه الحالة من سيناريو جديد لإسباغ الصفة الوطنية على نهاية «مناضلين من أجل الاستقلال العربي»، فكانت فتوى سيل على الشكل التالي: «ربما نفّذ أعضاء الحزب القومي الجريمة، لكنّ عبدالله وغلوب باشا دون ريب هما اللذان وفّرا الوسائل والفرصة لارتكابها». ص 732 . يريدنا سيل أن نعتقد أنّ بريطانيا التي منح رياض الصلح مندوبها في لبنان، الجنرال إدوارد سبيرس، «الجنسية اللبنانية وشرف اعتباره مواطناً «لبنانياً» وأغدق عليه من التكريم ما لم يغدقه على أجنبي». يوسف سالم، خمسون سنة مع الناس، ص 252 ، في حين منع جواز السفر عن مواطن لبناني هو أنطون سعاده، هذا الرجل كافأته بريطانيا بالاغتيال! ويغمز سيل أيضاً من قناة أحد منفّذي عملية مصرع الصلح بقوله: «أحد القتلة، عبد الطيف الصلاحي، عضو في الشرطة السريّة الأردنية وفي الحزب القومي». ص 729 . وحاول فاشلاً ترسيخ ذلك الاتهام بقوله إنّ طلباته للاطّلاع على الوثائق البريطانية حول عملية الاغتيال قوبلت بالرفض. ص. 734 .

إنّ الذي اشترك في تنفيذ عملية إنهاء رياض الصلح، هو للدقة فقط، محمد أديب الصلاح، وليس عبد اللطيف الصلاحي، الفلسطيني من حيفا، الذي عُرف بتوجّهاته الوطنية منذ الثلاثينات، وشارك في ثورة رشيد عالي الكيلاني ضدّ البريطانيين في العراق. هذا الرجل الذي أُصيب أثناء المواجهة مع قوّات الأمن الأردنية بعد حادث قتل الصلح، نقل إلى المستشفى وأُجريت له عملية جراحية، وعندما استفاق بعد التخدير قام بتمزيق جراحه وتوفّي بعد نزيف. مثل هؤلاء الرجال ليسوا مرتزقة ولا جواسيس.

أمّا اعتبار سيل أنّه لم يستطع الاطّلاع على كافة الوثائق البريطانية، وأنّه مُنعت عنه بعض التقارير، فليس بهذا الأمر العظيم الشأن الذي حاول سيل توظيفه والغمز من خلاله ملمّحاً أنّ للبريطانيين يداً في العملية. فمن الشائع أنّ ما يُسمح باستعماله من وثائق في الأرشيفات العالمية يجري انتقاؤه بدقة، ويتعرّض كثير منه إلى حجب مقاطع باللون الأسود لضرورات أمنية. وإذا اعتمدنا أسلوب سيل في التحليل الاستنتاجي، فهل باستطاعته أن يفسّر لنا لماذا لجأت بريطانيا وفق تأويلاته إلى قتل الصلح؟ ما هي الفائدة في تصفية رجل مثله؟ وما هو الخطر المحدق الذي كان يمثّله بالنسبة إلى المصالح الإمبراطورية البريطانية؟ لكن رغم ذلك نقول إنّ سيل لا يقول الحقيقة إطلاقاً، إنما يحاول بشكل بائس التستّر على حقيقة نهاية الصلح. وفي تقرير بريطاني سرّي حول عملية اغتيال الصلح إشارة إلى التالي: «إنّ محمد أديب الصلاح حاول الانتحار عندما فقد الأمل في النجاة أثناء المطاردة وحصار الفيلق العربي له، لكنّه أصيب ونُقل إلى المستشفى». تقرير بتاريخ 18 تموز 1949 في المحفوظات البريطانية رقم 29/1016 EL 91434/371 FO . وفي برقية عاجلة من عمّان، مؤرّخة في 25 تموز 1951، وموجّهة إلى السير كيركبرايد، إشارة إلى التالي: «توفّي محمد أديب الصلاح في المستشفى بسبب جروح أوقعها بنفسه Self-inflicted wounds ولم نستطع أخذ أيّة معلومات منه».

المحفوظات البريطانية، تقرير رقم 91434/371 FO . إنّ من يقوم بذلك لا يمكن أن يكون مخبراً مرتزقاً أو عميلاً، كما يحاول أن يوحي سيل ومن ساعدوه. بانتظار الجواب، ننتقل إلى الرواية الثانية التي حاول فيها سيل أيضاً هذه المرة اتّهام «الإسرائيليين» بأنّ لهم يداً في مصرع الصلح.

يتحدّث سيل بطريقة تدعو إلى الشفقة، ناقلاً عن حفيد رياض الصلح السيد رياض الأسعد، أنّ سبيرو وديع الذي شارك الصلاح وميشال الديك في عملية إنهاء الصلح، «هرّبه البريطانيون إلى أميركا اللاتينية عبر إسرائيل». ص 730 . عجباً كيف اكتشف الأسعد هذا الاكتشاف العظيم؟ من أين جاء بادّعائه هذا. لا مصدر ولا أحد يعلم، إنّه علم الغيب والخيال الواسع على ما يبدو! لذلك نقول للأسعد وسيل إنّه كان عليهم قبل اعتماد هذه التهمة وهذا الأسلوب في التضليل واختراع الروايات أن يطّلعوا على ما ذكره شقيق سبيرو وديع، عن أخيه، في جريدة «الهلال» الأردنية الأسبوعية، وهو التالي: إنّ سبيرو وديع نقولا موسى هو من مواليد قرية سمخ في الشمال الفلسطيني سنة 1927. استقرّت العائلة سنة 1933 في الأردن، وكان سبيرو على علاقة جيدة مع رفيقه محمد أديب الصلاح، وكان هو صاحب سيارة الهدسون التي استعملها مع رفيقيه في عملية مصرع الصلح. وإنّه بعد تنفيذ العملية، هرب سبيرو ورفيقاه إلى منطقة المحاجر المهجورة، والتي كانت تقع مقابل مستشفى ماركا العسكري. وفي تلك المنطقة جرت مواجهة عنيفة مع أفراد الأمن، جُرح خلالها محمد وميشال جروحاً خطيرة. ويضيف شقيق سبيرو: «قال محمد وميشال لأخي أهرب ونحن نتصدّى للمجابهة، هذه المواجهة التي قُتل فيها ميشال الديك. وحين ذاك التجأ سبيرو إلى بدوي من قبيلة الدعجة يُدعى فارس الهزّاع، والذي أمّن له ملجأ مدة خمسة عشر يوماً في مغارة. وفي تلك الأثناء لم تترك قوات الأمن مكاناً إلّا وبحثت فيه عن سبيرو من دون أن تستطيع إلقاء القبض عليه». ويكمل: «ألقي القبض على والدي وأخي جول، الذي كان ملازماً أول، وسجنا ما يقارب الأربعين يوماً. وخلال تلك الفترة تمكّن سبيرو من الهرب مشياً على الأقدام عن طريق عين غزال، ووصل إلى الزرقاء عند صديقه إبراهيم أبو جودة الذي أودع لديه المسدس الذي استعمله في عملية الاغتيال، وساعده بعض الأصدقاء على الهروب إلى سورية حيث اختبأ في صهريج بنزين فارغ. بقي في سورية ما يُقارب العامين، وحصل سبيرو على جواز سفر شخص متوفّ يُدعى سليم ابراهيم منصور، وتسمّى سبيرو باسم صاحب الجواز وغادر إلى البرازيل حيث عمل بالتجارة وتزوّج برازيليّة وزارته شقيقته وتوفي سنة 1978». نص الحديث في الموقع التالي: www.alhilal.com.jo/111-invest.htm .

هذا بعض من نماذج الأحداث التي جاءت في سياق كتاب السيد سيل. لكن مهلاً وعذراً للتطويل، إذ أريد أن ألفت نظر سيل قبل اتهام البريطانيين أو «الإسرائيليّين» بعلاقتهم بقتل الصلح، إلى ما كتب هو شخصياً في الصفحة 621 من كتابه، لنكتشف من كان يقدّم المعلومات ويتبجّح بقتل أبناء بلده ومحاربة الشيوعيّين أمام السفير البريطاني في بيروت. يقول سيل: «عندما أصبح الصلح رئيساً للوزراء، أخذ ينظر للحزب الحزب الشيوعي كقوة مثيرة للفوضى. في 18 تشرين الثاني 1947، على سبيل المثال، عندما هاجم متظاهرون في زحلة، وهي مدينة في سهل البقاع، مخزناً للقمح احتجاجاً على نقص الطحين، استدعى رياض الجيش، أطلق الجنود النار على الحشود، فقُتل ثلاثة أشخاص وجُرح العديد غيرهم. دافع رياض عن نفسه في مجلس الوزراء، وأدان الشيوعيّين لأنّهم حرّضوا على الاضطرابات… وقرّر اتخاذ تدابير قاسية ضدّ الحزب، كما أبلغ السفير البريطاني في بيروت، وليم هوستن بوزوال William Houston Boswall، في أوائل سنة 1948، أنّه أقفل المقرّ الرئيس للحزب الشيوعي، وجمعية الصداقة اللبنانية ـ السوفياتية، ونقابات العمال التي يقودها الشيوعيّون برئاسة مصطفى العريس، الذي كان يُعتبر محرّضاً على الاضطرابات المتكرّرة».

ما علاقة السفير البريطاني بهذا الموضوع؟ سؤال بريء، والأدهى من ذلك أنّ سيل برّر في فتوى غريبة عجيبة تصرّف الصلح «الديمقراطي جداً» بقوله: «من الواضح أنّ قيام رياض الصلح باتّخاذ مثل هذه التدابير القمعيّة غير المعهودة، يُظهر تأثّره بمناخ الحرب الباردة في ذلك الوقت». ص 621 .

الخلاصة

بالعودة إلى ما جرى في تلك الحقبة من أحداث، يتبيّن لنا أنّ المواجهة كانت حتمية بين سعاده والسلطة الحاكمة في لبنان. إنّها مواجهة بين عالمين مختلفين جذرياً. مواجهة لجأ فيها أعداء سعاده إلى التآمر، وانتهجوا أسلوب القتل قاعدة على رغم تكرار سعاده دعوته إلى الحوار وقوله المشهور «مشكلة الحرية لا تُحلّ إلا بالحرية». كانت المواجهة من جهة أولى، مع طبقة سياسية هي من بقايا العائلات الإقطاعية المذهبية المتناسلة، والتي خدم أبناؤها العثمانيّين ثم انقلبوا عليهم، وتعاملوا مع الوكالة اليهودية وباعوا الأراضي للصهاينة وقبضوا الأموال. بعضهم أيّد سرّاً المطامع اليهودية في فلسطين، وبعضهم الآخر علناً. كما قدّمت الوكالة اليهودية الأموال للعديد من الساسة والصحافيّين، وكانت صحف «الأوريان» و»الحديث» و»الأحوال» و»الأحرار» و»La Syrie» وغيرها ، تنشر المقالات من دون توقيع لإلياهو ساسون. هذه الطبقة السياسية التي امتهنت التجارة بالأوطان والناس انقلبت على العثمانيّين وعملت مع الفرنسيّين. وعلى سبيل المثال، عندما اعتقل رياض الصلح في المجلس العرفي في عاليه من قِبل حاكم سورية جمال باشا، اعترف في المعتقل كما يقول عادل أرسلان في مذكراته إنّه «يحب فرنسا». وبعد أن أُطلق سراحه بوساطة عزمي باشا، توقّف حبيب فرنسا عن ممارسة العمل السياسي.

ومع تبدّل الأوضاع، انتقل حب فرنسا إلى حب بريطانيا مع ارتفاع حدّة التنافس الفرنسي البريطاني على سورية. هذا ما يوضحه لنا سيل، مشكوراً، عندما يقول: «أصبح رياض الصلح بعد الحرب العالمية الثانية مؤيّداً لبريطانيا، والسبب يعود إلى حدّ كبير لصداقته مع الجنرال إدوارد سبيرس وامتنانه للدعم الذي قدّمه في النضال للاستقلال من قِبل الفرنسيّين». ص 620 . وربّ قائل إنّ صداقته لبريطانيا أيضاً كانت نابعة من «الدعم» الذي قدّمه البريطانيّون لشعب فلسطين منذ وعد بلفور مروراً بحملات القمع والقتل في سنوات 1929 و1936… وهذا للأسف ما تناسى أن يُشير إليه سيل.

إنّ هذه الطبقة التي يمثّلها السيد الصلح لا تزال تتناسل حتى يومنا هذا. مواقفها وتحالفاتها زئبقية، فالمهم البقاء في السلطة وإلّا فالطائفة في خطر، ولا بأس في أن تلجأ إلى أسلوب القتل وإعلان الجهاد والاستعانة بالأجنبي لتثبيت سلطتها. طبقة من جميع الطوائف، كي لا نظلم الصلح وحده: مع العثمانيين، مع فيصل الأول، مع الفرنسيّين، مع الوكالة اليهودية، مع البريطانيّين، مع الأميركيّين، مع نوري السعيد وعبد الناصر وصدام حسين وسورية والسعودية وإيران… المهم السلطة أولاً وأخيراً.

من ناحية أخرى، كانت نقاط الضعف عند سعاده أنّه لم يكن ماكراً، كما يقول لنا سيل. ولم يكن سعاده سليل الإقطاع السياسي. والده الدكتور خليل كان وطنياً بامتياز، عاد ابنه إلى وطنه من المهجر في مطلع الثلاثينات حيث أمضى معظم الوقت في السجن أيام الانتداب الفرنسي بسبب مواقفه المعادية للاستعمار الأجنبي، والمؤمنة بنظام جديد لا وجود فيه للطائفية ولا لقبضاياتها وأشقيائها. وكان يؤمن بوحدة الأرض القومية وبعدم التفريط بشبر واحد تحت أي ظرف أو ذريعة، سواء في أنطاكية وإسكندرون أو في فلسطين… لذلك كان لا بدّ من تصفيته.

إنّ مجرّد تصوّر مدى خطورة المواجهة التي خاضها سعاده مع المستعمر في الثلاثينات، ومع من جاء به المستعمر إلى السلطة في المرحلة التي سمّيت بالاستقلال، يبيّن لنا جسامة المهمة التي أراد تنفيذها مع رفقائه. أمضى سعاده بضع سنوات تُعدّ على أصابع اليد في وطنه، وكالعاصفة مرّ في هذا المجتمع المريض والممزّق. وكان ما بناه بمثابة الخطر الأكبر على بقايا الإقطاع والتجّار بالأوطان والأديان والحركة الصهيونية وداعميها في الغرب والشرق. كانت قضية الوحدة القومية، وفلسطين في طليعتها، هي الموضوع المصيري الأساسيّ بالنسبة إليه حتى الرّمق الأخير، عنها بدأ كتاباته في العشرينات محذّراً من خطورة الغزوة الصهيونية على بلادنا، وبسببها قُتل. أوليس هو القائل: «ليس لابن النور مكان بين أبناء الظلمة»؟

ختاماً، إنّ جميع الاستشهادات التي أشرت إليها في سياق هذا البحث موثّقة ومن مصادرها، ولم أعتمد أسلوب التأويل واختراع الروايات كما اعتمد سيل. والموضوع بالنسبة إليّ، سواء نشر سيل أو غيره كتباً أو مقالات تمدح وتعظّم وتخترع الأدوار الوطنية الكبرى، ليس أمراً ذا أهمية، إنّما الأمر الأساسي هو أنّ تاريخنا، الحديث منه على الأقل، لا يكتبه كتبة يتقاضون المال لقاء نصوص مزوّرة.

ممّا يؤسَف له أنّ عملية غسل أدمغة الناس وتصوير الجريمة على أنّها فضيلة والخيانة على أنّها نضال هي عملية مستمرة. لكن على أيّة حال، أقول للسيد سيل الذي نشر سنة 1992 كتاباً عن أبو نضال قائد حركة فتح ـ المجلس الثوري بعنوان: «أبو نضال: بندقية للإيجار»، فلتسمح لي بأن أستعير منك العنوان بشكل آخر: «باتريك سيل: قلم للإيجار»، وآمل أن تتقبّل ذلك، مع وعد بأنني لن أطلب منك التصفيق!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى