أزمة المياه في العراق وسورية… أبعاد سياسية واقتصادية

يكتسب موضوع المياه أهمية كبيرة في العالم العربي بصورة عامة وفي العراق بصورة خاصة وأصبحت أزمة المياه مرشحة لإشعال الحروب في منطقة الشرق الأوسط وفقاً لتحليل دوائر سياسية عالمية، خصوصاً أن معظم الأقطار العربية لا تملك السيطرة الكاملة على منابع مياهها، فإثيوبيا وتركيا وغينيا والسنغال وكينيا وأوغندا وربما زائير أيضاً هي بلدان تتحكم بحوالى 60 في المئة من منابع الموارد المائية للعالم العربي، ما سيؤثر بصورة مباشرة على الدول العربية وبالأخص في العراق، بسبب نقص المياه وزيادة الطلب الذي يعود إلى زيادة عدد السكان وتراجع مناسيب موارد المياه عن معدلاتها السابقة، والإسراف بل والإهدار في المياه إضافة إلى عامل تلوث البيئة المائية لذا فالحاجة باتت ماسة إلى تطوير الموارد المائية وتقنينها عبر الاستخدام الأمثل لهذه الموارد، وقد حظيت أبحاث تطوير الموارد المائية باهتمام المختصين والباحثين باعتبارها الحل الأمثل لزيادة هذه الموارد إضافة إلى تلافي الصراعات والحروب المحتملة التي قد تحدث بسبب نقص المياه. وذلك بالنظر إلى محدودية المتاح منها كمياه الشرب وطبقاً للمؤشر الذي يفضي إلى أن أي بلد يقل فيه متوسط نصيب الفرد من المياه سنوياً عن 1000- 2000 متر مكعب يعتبر بلداً يعاني من ندرة مائية، وبناءً على ذلك فإن 13 بلداً عربياً تقع ضمن فئة البلدان ذات الندرة المائية.

ويوضح تقرير البنك الدولي لسنة 1993 أن متوسط نصيب الفرد السنوي من الموارد المائية المتجددة والقابلة للتجدد في العالم العربي مع استبعاد مخزون المياه الكامنة في باطن الأرض سيصل إلى 667 متراً مكعباً في سنة 2025 بعدما كان 3430 متراً مكعباً في سنة 1960، أي بانخفاض بنسبة 80 في المئة.

البعد السياسي للأزمة

لا يمكن فصل العلاقات المائية بين الدول الثلاث حول نهري دجلة والفرات عن خلفية العلاقات السياسية بينهم، خصوصاً في ما يتعلق بتركيا وسورية، فالعلاقات بين الدولتين منذ استقلت الأخيرة عن الإمبراطورية العثمانية عام 1916 والعلاقات بين الطرفين تتراوح بين القطيعة والتوتر والتهديد. وقد لعب الاستعمار الفرنسي دوراً في إثراء هذا الصراع بين الدولتين حين قام عام 1936 بإهداء لواء الاسكندرون السوري إلى تركيا التي تتمسك به نظراً إلى موقعه على المدخل الشرقي للبحر المتوسط لتركيا، الأمر الذي يمثل مصدراً دائماً للخلاف بين الدولتين. ومع نهاية الخمسينات وصل الخلاف السياسي بين الدولتين إلى حد المواجهة العسكرية لولا وصول القوات المصرية لدعم سورية ثم قيام الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسورية في 1958.

وفي منتصف الستينات قامت سورية بتجميد ومصادرة جميع الممتلكات العقارية للأتراك في الأراضي السورية وردت تركيا بإجراء مماثل ولم تكتف الدولتان بذلك وإنما شرعت كل منها تدعم الحركات والجماعات المناهضة للأخرى داخل حدودها، ونشير هنا إلى احتضان تركيا لتنظيم الإخوان المسلمين الإرهابية وتقديم المساعدة العسكرية لها وفرارها عبر الحدود. وعلى رغم محاولات أنقرة إظهار حرصها على الاحتفاظ بعلاقات جيدة إلى حد ما مع العراق إلا أنه ومع عام 1974 أصبحت مياه نهر الفرات موضع خلاف بين تركيا وسورية والعراق من ناحية، وبين سورية والعراق من ناحية أخرى. إذ شرعت تركيا وسورية في بناء السدود الأمر الذي قلص كمية المياه المتدفقة إلى النهر.

وقد استمرت التوترات في هذه العلاقة مع قيام أي من الدول الثلاث بأعمال على مجرى النهر تقلل من كمية المياه المتدفقة فيه إلى أن وصلت أزمة الفرات إلى ذروتها في كانون الثاني 1990 عندما قامت تركيا بخفض المياه المتدفقة في هذا النهر لمدة ثلاثين يوماً، لملء البحيرة التي تكونت خلف سد أتاتورك الأمر الذي أضر بسورية والعراق أشد الضرر وكاد الأمر يصل إلى المواجهة المسلحة لولا الجهود الدبلوماسية وضبط النفس الذي مارسته الأطراف المختلفة. تجدر الإشارة إلى أن الأمور بدأت تتعقد وتأخذ مساراً خطيراً منذ أن بدأت تركيا تنفذ مشروع جنوب شرقي الأناضول المعروف اختصاراً باسم جاب، وقد تصاعد الأمر إلى تصعيد خطير بين سورية وتركيا في أواخر عام 1998 وصل إلى حد حشد القوات التركية على الحدود مع سورية تحت دعوى مساعدتها للأكراد وإيواء رئيسهم عبد الله أوجلان الذي تبيّن لاحقاً وجوده في روسيا. ومع أن اللقاءات بين الدول الثلاث لم تنقطع خلال التسعينات حيث تعقد تارة بين المسؤولين الفنيين، وتارة أخرى يشارك فيها المسؤولون السياسيون إلا أنها لم تسفر عن أية نتائج.

ويمكن القول إن المشكلة الرئيسية لنهر الفرات تتمثل في أن كمية المياه المستهدفة للاستهلاك من قبل الدول الثلاث تتجاوز إجمالي إيرادات النهر بمقدار 17.3 مليار متر مكعب، وبالتالي من المستحيل تلبية الأهداف الاستهلاكية للدول المعنية من النهر بحدود إمكاناته.

إن أمن العراق يتعرّض لخطر جدي حاضراً ومستقبلاً بسبب أزمة المياه وسياسات دول الجوار في شأنها، فيجب أن يكون هناك اهتمام جدي بالمشكلة من قبل السياسيين والمختصين سواء باتخاذ القرارات الصائبة أو بإعداد البحوث والدراسات الموضوعية لتشخيصها وعلاجها.

إن النشاط السياسي الداخلي للدول «المتشاطئة» مع العراق يدخل ضمن إطار أسباب هذه الأزمة وإن منابع الأنهار العراقية من خارج الحدود للبلد وهذا الموضوع بحد ذاته يضع العراق بوضع حرج ما لم تكن هناك معاهدات واتفاقيات مع تلك الدول تنظم سبل التصرف وإدارة المياه بين دول الجوار والعراق.

البعد الاقتصادي للأزمة

إن شح المياه في العراق لها أسباب عدة ويعد الموقع الجغرافي السبب الرئيسي لها، يعود بالدرجة الأساسية إلى الاعتماد على مياه نهري دجلة والفرات وما يقابل ذلك من قلة وجود المناطق الرطبة، الأمر الذي يزيد من عملية تبخر كميات كبيرة من المياه وزيادة المفقود منها.

والسبب الآخر ما تلعبه الدول المتشاطئة مع العراق من دور للتأثير المباشر على نهر الفرات بشكل خاص، حيث يقع الحوض المغذي للنهر داخل الحدود التركية والتي تشكل نسبة 90 في المئة من المياه، وأما نسبة 8 في المئة للنهر تأتي من الحدود السورية. هذه الدول عملت على بناء السدود العديدة والتي تقوم من خلالها بحجب وصول المياه إلى الأراضي العراقية لأخذ ما تحتاجه من المياه، وبالنتيجة تكون النسبة التي تصل إلى نهر الفرات نسبة قليلة إذا ما قورنت بالحاجة للمياه والزيادة في الطلب نتيجة للأعداد السكانية العالية والتغيرات المناخية في العراق.

ففي المجال الزراعي أثر شح المياه بشكل كبير على مساحات واسعة من الأراضي الزراعية تحت ظل هذه الأزمة، فقد كانت تزرع سابقاً مساحات كبيرة منها وتم تقليصها بسبب قلة المياه المتدفقة من نهري دجلة والفرات، ما يؤدي إلى الاعتماد على المحاصيل الزراعية المستوردة من الخارج، وهذه الأزمة واسعة الانتشار وتشمل محاور عدة تتمثل في ما يأتي:

المحور الأول: يضم كل التغيرات المناخية التي يشهدها العراق من جفاف وقلة هطول الأمطار. المحور الثاني: جدلية استحواذ الدول المتشاطئة معه على كميات المياه التي تصل إليه عبر نهري دجلة والفرات إذ إنها أنهار دولية وتمرّ عبر الدول وصولاً إلى مصباتها في العراق. المحور الثالث: الطرق المستخدمة في الزراعة والأساليب غير المتطورة التي تعمل بدورها على زيادة الهدر بشكل واضح على المياه، وما يقابل الدور المهم الذي تقوم به الزراعة لسد حاجة السوق من المحاصيل الزراعية وما يشهده العراق من الكثافة السكانية العالية وضعف دور البنى التحتية للمياه داخل العراق، إذ تقوم باستخدام طرق الري القديمة التي تعمل بدورها على تفاقم هذه الأزمة التي تعد بحاجة إلى التطوير لتقليل المفقود من المياه، وإدخال الطرق الحديثة في منظومة مياه الري واستخدام ما يعرف بالري المغلف الذي يستخدم في الزراعة، الأمر الذي يمكن من خلاله استخدام النسبة القليلة المتوافرة من المياه في سد الحاجة المتزايدة له.

لا توجد حلول سحرية لأزمة المياه في العراق، لذا يجب التوجه إلى بعض الحلول التي يمكن من خلالها تفادي ولو جزء من هذه الأزمة وذلك من خلال تشكيل مجلس أعلى لإدارة المياه في العراق يكون عمله احترافياً ومهنياً وبعيداً عن التسييس، تفعيل المعاهدات والمواثيق الدولية ذات العلاقة باستغلال الأنهار الدولية والحرص على انضمام دول الجوار إليها، فضلاً عن عقد معاهدات ثنائية وجماعية بين دول الإقليم لضمان حقوق الجميع من الماء.

وكذلك نشر ثقافة ترشيد استهلاك المياه بين أبناء الشعب العراقي للحد من المشكلة، على أن يكون للمؤسسات الرسمية والإعلامية ومؤسسات المجتمع المدني الدور الريادي في ذلك، ويجب أن تكون خطط التنمية الموضوعة من الحكومة الاتحادية والحكومات المحلية، مدروسة بشكل جيد وبما ينسجم مع تحقيق الأمن المائي للعراق مستقبلا، والانتباه إلى أن المياه الجوفية هي ثروة للأجيال العراقية المستقبلية، فيجب الحفاظ على هذه الثروة من خلال وضع سياسة مدروسة لحفر الآبار واستغلال هذه المياه. والدعوة إلى تربية أنواع معينة من الحيوانات، فضلاً عن زراعة أنواع محددة من المحاصيل الزراعية لا سيما تلك التي يقل استهلاكها للماء والحرص على الاستفادة من تجارب الدول الأخرى: الإقليمية والدولية في استغلال المياه.

أزمة الأهوار

إن الحدّ من تأثيرات هذه الأزمة على واقع شح المياه يحتاج إلى حلول واسعة، ليس فقط من خلال إبرام الاتفاقيات مع الدول المتشاطئة، بل إلزام هذه الدول بتنفيذها والحدّ من ظاهرة استحواذها على المياه واستخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة، وتوزيع المياه على الأراضي الزراعية والتحول من الري السيحي إلى الري بالرش والتنقيط، لأن أكثر من 90 في المئة من المياه تذهب إلى أغراض الزراعة، فلو قورن هذا مع مردود الزراعة نجد استهلاكه للمياه أكثر من الناتج.

ويجب الالتفات إلى بقعة مهمة من العراق ألا وهي الأهوار حيث تعتبر مصب المصب وتحمل معايير ثقافية وتاريخية وحضارية على المستوى العالمي والمستوى الإحيائي وتغني العراق بالأراضي الرطبة والمساحات الزراعية الصالحة، ما يستوجب أن تكون هذه الأهوار ضمن الاتفاقيات المبرمة وإعطائها حصصاً من كميات المياه لأن إهمالها يؤدي من دون أدنى شك إلى تفاقم الأزمة وزيادة عدد السكان النازحين من المناطق التي تكون هي المصدر الأساسي لمعيشتها، وتأثيراتها المباشرة على التغيرات المناخية وقلة الثروة السمكية.

والأهوار من الأجزاء المتضررة من أزمة شح المياه فقد أدى ذلك لوجود الملوحة العالية والتلوث في مياهها، لأن قلة الإيرادات من المياه أدى إلى رفع اللسان الملحي إلى منطقة الخليج العربي، ومن البديهي أن هذه الأهوار تحتاج إلى عمليات غسل وتبديل لمياهها لحمل الملوثات التي تأتي مع المياه وتحت ظل هذه الأزمة يتعذر القيام بعمليات التنقية للمياه .

وقد أسفرت بعض الاقتراحات والدراسات عن إيجاد حلول لتطوير الموارد المائية في المنطقة، وذلك عبر بناء شبكات لنقل المياه إلى دول المنطقة التي تعاني أزمة حقيقية في مواردها الحالية أو في المستقبل وقد لاقى البعض من هذه الاقتراحات الترحيب في دول المنطقة، في حين لاقى القسم الآخر منها جملة من الانتقادات بسبب الكلفة العالية أو بسبب عدم إمكانية تنفيذ المشاريع لأسباب سياسية تتعلق بالاعتبارات الاستراتيجية لدول المنطقة.

إضافة إلى خشية دول المنطقة من استخدام المياه كسلاح ضدها مستقبلاً من قبل الدول المصدرة للمياه أو الدول التي تمر عبرها شبكة المياه نظراً إلى عدم وجود ضمانات دولية كافية وملزمة تردع الدول التي قد تقوم باستخدام المياه كسلاح ضد دول أخرى فالقانون الدولي ما زال قاصراً وليس له صفة الإلزام للدول الموقعة عليه.

وكانت وزارة الموارد المائية العراقية قد أعلنت في نيسان 2012 عن سعيها لجمع تواقيع لحماية نهر دجلة، وتأتي هذه الخطوة دعماً لمنظمات المجتمع المدني التي تبنت بدورها موضوع إدراج نهر دجلة من قبل منظمة اليونسكو العالمية في قائمة محميات التراث العالمي وحمايته من المخاطر التي يتعرض لها هذا النهر والبيئة المحيطة به، ما حدا بناشطين عراقيين بتنظيم حملة جمع تواقيع على موقع التواصل الاجتماعي الفايسبوك لإنقاذ نهر دجلة ووضعه ضمن محميات التراث العالمي، لذا فأزمة المياه في العراق تحتاج إلى حلول جذرية وسريعة من خلال تضافر جميع الجهود للحيلولة دون تفاقم هذه الأزمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى