النسبية والدولة المدنية الديمقراطية
عبدالله خالد
بعد تراكم الأزمات على كافة الأصعدة أصبح من حقنا أن نتساءل إذا كان لبنان قد أصبح في عداد الدول الفاشلة في العالم وعما إذا كان في استطاعتنا، مع بدء العهد الجديد برئاسة العماد ميشال عون، أن نتجاوز المحنة ونوقف حالة الانهيار التي يعيشها لبنان أم أنّ من اتفقوا على إنهاء مرحلة الفراغ الرئاسي كان في ذهنهم إنقاذ الطبقة السياسية الفاسدة المستندة إلى النظام الطائفي الذي أصبح مذهبياً بامتياز من دون أن يصلوا إلى مرحلة بدء مسيرة الإصلاح والتغيير التي تضمّن خطاب القسم خطوطها العريضة وبقي أن تبدأ عملية تنفيذها، بحيث تمنع القوى المتضرّرة من الإصلاح تحقيقه بوضع العراقيل في وجهه كما كان يحصل دائماً منذ بدء مسيرة الاستقلال حتى اليوم، علماً أنّ عملية الإصلاح تحتاج إلى قوى إصلاحية حقيقية لأنه لا يمكن لأدوات الفساد والإفساد والطائفية والمذهبية أن ترسم بيدها مؤشرات نهايتها. والواقع أنه لم يعد خافياً على أحد أننا نعيش أزمة نظام سياسي طائفي فاسد يمنع أي إصلاح أو تغيير يهدّد مصالح الطبقة المُمسكة بالقرار السياسي في البلاد التي ترى أنّ أي حديث عن مكافحة الفساد أو إحداث ورشة إصلاحية يعني بداية نهايتها. ومن هذا المنطلق فإنها ترفض أي خطوة يمكن أن تعزّز الديمقراطية باعتبارها المدخل الطبيعي لتحقيق التغيير المنشود الذي سيأتي على حسابها حتماً. كما أنها ترفض أي توجه يؤدي إلى تعزيز المجتمع المدني بما يعنيه من انتقال من المجتمع الأهلي الذي تديره طوائف متفاوتة النفوذ تنطلق من خلفيات متعدّدة ومختلفة باختلاف توجهاتها وارتباطاتها الخارجية ومرتكزاتها الأساسية التي تنطلق منها وتؤدي في المحصلة إلى ترسيخ النظام الطائفي الذي حمل مؤخراً مؤشرات صراع مذهبي سافر ترافق مع بروز بذور تعصب عنصري تصل إلى حدود إلغاء الآخر. وفي ظلّ هذا المناخ كان من الطبيعي أن لا يتم إنتاج هوية وطنية جامعة، خصوصاً أنّ الدستور اللبناني نفسه لا يعير الإنسان أي أهمية إلا باعتباره ابن طائفة معينة ولا وجود لمن هو خارجها. وهكذا تقلص الحسّ المدني نتيجة عدم التوجه إلى الكلّ الاجتماعي الذي يركز على المواطنة في تصميم واضح على تجنُّب أي خطوة تغييرية يمكن أن تؤدي مع الوقت إلى قيام دولة حديثة تضمن قيام المؤسسات وسيادة القانون وحقوق الإنسان وحماية كلّ مكونات النسيج الاجتماعي للوطن.
وإذا كنا نطرح النسبية كمدخل لإقامة الدولة المدنية الديمقراطية المعاصرة فمردّ ذلك أننا نؤمن بأنّ شرط إقامتها هو اعتماد قانون عادل للانتخابات يضمن صحة التمثيل ويوفر العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص لكلّ مكونات النسيج الاجتماعي، خصوصاً أنه لا سبيل إلى إجراء انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وعادلة إلا باعتماد النسبية أو التمثيل النسبي أساساً للنظام الانتخابي نظراً للتعدُّد والتنوع في مكونات النسيج الاجتماعي اللبناني. إنّ النظام الأكثري مع الصوت الجمعي للناخب المُعتمد في لبنان هو الأكثر سوءاً إذ لم تعد تعتمده إلا ست دول في العالم لأنه يقوم على عدم الاعتراف بالآخر وعلى أساس فوز اللائحة التي تحصل على أكبر عدد من الأصوات بكامل مقاعد الدائرة الانتخابية مع ما يعنيه ذلك من فوز مرشحين بأصوات غيرهم وترك قسم كبير من الناخبين من دون تمثيل. كما أنه مُجحف بحق الأحزاب والقوى السياسية المتوسطة والصغيرة الحجم لأنّ توزع ناخبيها على دوائر عدة يحدّ من إمكانية فوزها. كما أنه يخالف الدستور لأنه لا يحقق مساواة اللبنانيين أمام القانون لأنّ بعضهم ينتخب 28 نائباً كما هو حال الشمال وبعضهم ينتخب نائبين كما هو حال صيدا، وبالتالي يتفاوت حجم الصوت الجمعي. من أجل ذلك فإننا ندعم قانون انتخاب على أساس النسبية ولبنان دائرة واحدة وخارج القيد الطائفي لأنه يُجسِّد عدالة التمثيل الشعبي من حيث إنصاف القوى السياسية، لا سيما الصغيرة منها ويعكس بدقة التنوع السياسي واتجاهات الرأي العام ويسهل تمثيل مختلف القوى والأقليات السياسية والاجتماعية بحيث يحصل كلّ فريق على حقه وينال حصته من مجموع المقترعين ويسهم في تحديث الحياة السياسية ويشجع على قيام تكتلات وجبهات على أساس برامج سياسية وينمّي الحياة الحزبية الديمقراطية ويتيح للنخب السياسية الجديدة والقوى الاجتماعية الصاعدة دخول البرلمان ويؤدي إلى زيادة نسبة المشاركة في الحياة العامة لأنه يضمن لجميع الناخبين عدم ذهاب أصواتهم هدراً لأنهم سيتمثلون في البرلمان الأمر الذي يحدّ من إمكانية الشعور بالغبن. ولا بدّ من التركيز على إشراك النساء في العملية الانتخابية، ترشيحاً واقتراعاً، عبر تأمين كوتا معينة، لفترة محدّدة، لتمثيل المرأة في المجلس النيابي وحثّ الكفاءات الشابة على خوض المعركة الانتخابية وتخفيض سن الاقتراع إلى 18 عاماً لتأمين ضخّ دماء جديدة في الندوة النيابية. وحبذا لو يشهد تأليف الحكومة العتيدة للعهد الجديد مؤشرات على تمثيل المرأة والشباب والكفاءات فيها بحيث يتحول الكلام عن أهمية وضرورة تحقيق الإصلاح والتغيير إلى واقع ملموس وليس مجرد ترديد شعارات سرعان ما يتم تجاهلها لنعود إلى لعبة المحاصصة وتقاسم الجبنة بين أطراف النظام الطائفي والطبقة السياسية الفاسدة كما كان يحصل منذ ولادة «لبنان الكبير» و»دولة الاستقلال» التي لم ترتق بعد إلى مستوى دولة القانون والمؤسسات والحرص على تطبيق الدستور الذي يُنتهك كلّ يوم.
الأمر المستغرب أنّ كل الدول تتقدم بينما نصرّ نحن على التراجع إلى الوراء. وما تجدُّد الحديث عن تمديد تقني للمجلس النيابي أو العودة إلى قانون الستين إلا مثال واضح. وكلّ ذلك لكسب المزيد من الوقت لابتكار صيغة تفرغ النسبية من مضامينها بحيث يصبح النظام الانتخابي الجديد أسوأ من قانون الستين. فهل نقف مكتوفي الأيدي ونترك اللعبة الجديدة لأركان النظام الطائفي تأخذ طريقها إلى التنفيذ؟ ويبقى السؤال كيف نبني الدولة المدنية الديمقراطية المعاصرة انطلاقاً من القانون النسبي الذي يبدو أنّ كلّ طرف يفهمه بشكل مغاير للطرف الآخر. فكيف نفسِّر النسبية وكيف نحميها في ظلّ إصرار مشبوه على إفراغها من مضامينها من قبل الطبقة السياسية الحاكمة المُتحكمة بالبلاد والعباد؟