لم نستسلم ولن…
كمال نادر
عندما وصل زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي، أنطون سعاده إلى بيروت بعد غياب قسري، كان رياض الصلح رئيس حكومة لبنان آنذاك يراقب الحشد الهائل والمُنظّم الذي استقبله، وقد هاله المشهد والموقف الذي أعلنه سعاده…
على الفور سُطِّرت بحقه مذكرة توقيف وسجن لكنه لم يمتثل لها واعتصم في الجبال، إلى أن سحبتها الحكومة في أواخر صيف 1947.
في 2 تشرين الثاني1947 أجبرت الحكومة الحزب القومي على إلغاء تظاهرة كبيرة كان قد دعا إليها في بيروت احتجاجاً على وعد «بلفور» وتلقّى الحزب تهديداً من رياض الصلح بالقمع العسكري. وفي 29 من الشهر عينه، قرّرت «الأمم المتحدة» تقسيم فلسطين وإعطاء قسم منها لليهود، وهو ما اعتبره سعاده كارثة قومية، فأصدر في 1 كانون الأول 1947 بلاغاً بخصوص فلسطين وضع فيه القوميين في حالة حرب وطلب أن تفتح فروع الحزب أبواب التطوّع للشباب الراغبين بالقتال في فلسطين تحت راية الزوبعة.
بعد أشهر قليلة اندلعت حرب الإنقاذ وشارك الحزب في القتال بفرقة «الزوبعة» التي كان يقودها الأمين مصطفى سليمان، والتي قامت بعدة عمليات ضدّ العصابات اليهودية في حيفا ويافا، لكنّ الأنظمة العربية العميلة منعت السلاح عن القوميين، ثم تمّت الهدنة مع الصهاينة وقامت دولة العدو على جزء من أرضنا هناك.
إزاء التخاذل والخيانة قرّر سعاده أن يعتمد طريق الكفاح المسلح لإنقاذ فلسطين، فأسّس مدرسة سرية لتدريب ضباط يقودون هذا العمل، واعتمد على القوميين المنتشرين في جيوش الكيانات السورية، ودعا حكومات هذه الدول إلى تشكيل قوة لتحرير فلسطين.
وفي أول حزيران 1949 أعلن من برج البراجنة أنّ الحزب القومي سيكون له ردّ حاسم وحربي على وجود «إسرائيل». وقال: «هذا ليس آخر جواب نعطيه لليهود، إنّ الجواب الأخير سيكون في ساحة المعركة متى قرّرت القيادة القومية العليا إعلان الحرب للتحرير».
على الفور تحركت أدوات المؤامرة، فوصل وزير خارجية العدو موشي شاريت إلى دمشق في 4 حزيران، واجتمع إلى حاكمها العسكري حُسني الزعيم ورئيس وزرائه محسن البرازي عديل رياض الصلح في بلودان، وقد ألبسوه بزة مقدّم في الجيش السوري وكانت واسعة على قياسه، بحسب ما يقول ضابط المخابرات السوري سامي جمعة، وحار الضباط في معرفة من هو هذا الضابط الذي لم يروا وجهه من قبل.
تمّت المؤامرة وانطلق التنفيذ بعد أيام، أيّ في 9 حزيران حيث وقعت «حادثة الجمّيزة» في بيروت وتمثلت باعتداء قام به عناصر حزب «الكتائب» على مطبعة الحزب الكائنة هناك، وكان الزعيم فيها يشرف على تحرير جريدة «الجيل الجديد». لم يستطع المعتدون قتل الزعيم فأحرقوا المطبعة والجريدة واشتبكوا مع عمالها وحراسها، لكن قوات الحكومة اعتقلت القوميين وداهمت مراكزهم، واجتمع مجلس الأمن المركزي، بدعوة من رياض الصلح، وقرّر حلّ الحزب ومصادرة ممتلكاته وملاحقة أعضائه وزعيمه.
لم يُسلّم سعاده نفسه بل غادر بيروت إلى عاليه ثم إلى البقاع ومنه إلى دمشق، وكان ممكناً القبض عليه، ولكن لم يكن الصلح يريد اعتقاله في لبنان لأن لا سبب عنده للإعدام، وهو على يقين من أنه واقع في الطوق المنصوب له مع حسني الزعيم والبرازي. هناك ظلّ عدة أسابيع ولم يجرِ تسليمه،
بينما توالت أعمال القمع ضدّ القوميين في لبنان وكانت الأخبار تصل إلى الزعيم مع مطالبات له بأن يقوم بعمل لإنقاذ الحزب من القمع والتنكيل…
إزاء هذا الوضع قرّر سعاده القيام بعمل عسكري لإنقاذ حزبه ورجاله من القمع واعتبر أنّ حكومة لبنان قد اعتدت عليه وعلى حزبه وأنه مضطر للردّ دفاعاً، وإسقاط هذه الحكومة الفاسدة. وكان حاكم دمشق قد وعده بالمساعدة العسكرية إذا ما أعلن ثورة ضدّ حكومة بيروت، وهذا ما حصل في 4 تموز 1949، لكنّ الخيانة كانت جاهزة وافتضحت منذ الساعة الأولى من خلال إعطاء القوميين سلاحاً فاسداً وإبلاغ رياض الصلح عن خططهم فوجدوا أنفسهم واقعين في الفخ العسكري في جوار مشغرة حيث استشهد عساف كرم ومعه سلاح لا يُطلق النار، وتمّ اعتقال من كانوا معه، كما واجهت الفرقة التي كانت تتقدّم من جهة راشيا بقيادة الرفيق زيد الأطرش، كميناً للجيش اللبناني واضطرت للتراجع.
جاء الضابط الصديق العقيد توفيق بشور إلى سعاده وأبلغه بأنّ المؤامرة وقعت ونصحه بأن يغادر سورية قبل أن يسلّمه حسني الزعيم إلى حكومة لبنان لإعدامه، لكنه لم يغادر وفضّل الموت على الهزيمة والهروب.
وهكذا وفي أقلّ من 36 ساعة بعد أن أصبح سبب الإعدام جاهزاً بإعلان الثورة ، تمّ تسليمه إلى الحكومة اللبنانية، التي أوفدت ضابطين كبيرين إلى دمشق مع تعليمات بتصفيته على الطريق في وادي الحرير، لكنّ الضابطين فريد شهاب ونور الدين الرفاعي لم يفعلا ذلك، ولما وصلا به إلى بيروت جنّ جنون رياض الصلح وشكل محكمة عسكرية بدأت محاكمة الزعيم في ليل 6 تموز وانتهت بعيد ظهر 7 منه، وصدر حكم الإعدام، بعدما انسحب محامو الدفاع احتجاجاً على أسلوب المحاكمة.
كان مفترضاً أن يُمنح سعاده مهلة لتقديم طلب للعفو إلى اللجنة القضائية المختصة بذلك لكنه لم يُعط الفرصة بل دعيت هذه اللجنة على عجل في الليل وأُجبرت على تصديق الحكم، ثم ضَغَط رياض الصلح على رئيس الجمهورية بشارة الخوري، لتوقيع مرسوم الإعدام، والمؤسف أنه لم يقف أحد من الوزراء ضدّ التنفيذ، خاصة أولئك الذين حرسناهم في «معركة الاستقلال»، ويروي الشيخ خليل ابن بشارة الخوري أنّ والده لم يكن يريد أن يوقّع على الإعدام لكنه لم يجد أحداً يقف معه حتى أنه استعان بمطران بيروت الأرثوذكسي فلم يقف أيضاً إلى جانبه…
وقبل بزوغ فجر 8 تموز تمّ تنفيذ الإعدام وانتهى أعظم رجل عرفه الشرق بل العالم مقتولاً على يد أناس عمل لرفع رؤوسهم وبناء حياة راقية لبلادهم، وتبع ذلك إعدام سبعة من أعضاء الحزب بعد بضعة أيام في بيروت 21 تموز 1949 .
هل استسلم القوميون؟ كلا وألف كلا، بل إنهم دكّوا رؤوس الخيانة والعمالة والأيدي التي امتدّت إلى زعيمهم بالأذى والتآمر…
وكيل عميد الإذاعة
في الحزب السوري القومي الاجتماعي