من فلسطين يا حلب سلام…!
نصار إبراهيم
أنا الفلسطيني البسيط المحاصر بالنذالة والهبوط والوجع المقيم سأحتفي الآن بذاتي… لأهتف للأيام المقبلة: هنا القدس من حلب، من دمشق، من بيروت، من الموصل، من بغداد، من صنعاء، من القاهرة…
لنترك الآن ثرثرة الصغار ورهانات العجز… لنتابع قليلاً نتائج ذلك الصبر الاستراتيجي والصمود الباسل في سورية… لنترك السياسة التافهة التي يرسمها خيال ومخيال فقير وبائس، لنترك السياسة التي يحكمها المال والبدلات الأنيقة والفنادق الفارهة، السياسة التي هي أقرب إلى رقص داعر في حانات هابطة… لنترك السياسة المستلبة لأشباه دول أسلمت ذاتها واستسلمت لأقدارها لكي يطأها القوّادون في البيت الأبيض وداوننغ ستريت وتل أبيب والشانزيليزيه وفي كهوف عصابات القتل والجهل القادمة من عصور النفط والظلام.
لنترك ضحالة الوعي والقلوب الجبانة، لنترك أشباه الدول التي تهتز حين تصطدم الإرادات فتلوذ بترداد الكلمات الفارغة عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، فيما رغيف خبزها وكتاب أطفالها المدرسي مربوط برضى وشروط البنك الدولي والولايات المتحدة.
لنترك الكلام الكبير عن جيوش وجنرالات وقادة يتبجّحون كفزاعات الحقول الفارغة، فقط بطولات وهمية فيما العدو يقف أمامها ويبتسم فتبادله التحية بأحسن منها…
لنترك ثقافة الرمال والغاز وفضائيات البؤس ومسابقات القطط والجمال والكلاب والأوز، لنترك بهلوانيات المثقفين والإعلاميين الذين يرون القشة وذرّة الغبار في بندقية من يقاتل ويقاوم ولا يرون الخازوق في عيون واقعهم المعاش.
لنترك كلّ هذا… ولنذهب إلى المدن الكبرى مدن المجد والتاريخ والحضارة، لنذهب إلى حلب حيث تصول الجيوش كما يجب عليها أن تصول دون كلمات كبرى ودون ادّعاءات، لنذهب حيث يرتفع عويل لندن وباريس وواشنطن وتل أبيب وآل سعود وأردوغان دون أن يجرؤ أيّ منهم على التدخل فيما تسحق أحلامهم تحت أقدام جنود ومقاومين عابسين كما القدر…
لنذهب الآن إلى حلب وهي تصفي حسابها مع السنوات العجاف، لنذهب إلى حلب حيث يتجوّل الآن في شوارعها سيف الدولة وأبو فراس الحمداني والمتنبي بكلّ كبرياء الفرسان، لنذهب الآن إلى حلب حيث الكرامة العالية ليوسف العظمة وسلطان باشا وإبراهيم هنانو وصالح العلي وجول جمّال… هنا حيث لحظة الفصل في السياسة والميدان…
الصغار لن يفهموا ذلك لأنهم لا يفهمون السياسة إلا بمنطق «طويل العمر» الذي يمتطيه الكاوبوي ويسوطه كعجل أحمق.
كم مرة قلنا إنّ السياسة معادلات رياضية وليست شعوذات وعنتريات قوى وشيوخ لا يفكرون أبعد من نصفهم السفلي…
كثيراً ما كان هؤلاء لصغار يسخرون من ردّ دمشق البارد حين كانت تردّ باقتضاب على الاعتداءات الإسرائيلية بعبارة «سنحتفظ بحق الردّ في الوقت والمكان المناسبين»، لقد كانوا يضحكون ويشمتون لأنهم يمارسون السياسة بمنطق الهواة والأنذال، لأنهم لا يعرفون معنى الاستراتيجية ومعنى خطورة الذهاب لمعارك مبكرة يحدّد موعدها ومكانها العدو، ولا يفقهون معنى الصبر الاستراتيجي لكي تتهيأ الشروط لإعلان الغضب الشجاع…
صغار السياسة لا يفهمون منطق الاستراتيجيات بعيدة المدى، ولا يفهمون منطق إدارة الصراع وتعظيم القوة للحظة الحاسمة وبناء التحالفات… إنهم فقط يضحكون ببلاهة وكأنهم يملكون مصيرهم بينما هم في الحقيقة ليسوا أكثر من مجرد باحة خلفية للأساطيل والقواعد الغربية.
بلاهة وسخافة الساسة الصغار لا تنتبه ولا تقرأ التقارير الإسرائيلية التي تتحدّث عن مدى شعور «إسرائيل» بالخوف والضيق مما يجري على الجبهة الشمالية، كما لا ينتبهون مثلاً إلى الغضب العاجز لـ»إسرائيل» أمام توقيع الاتفاق النووي مع إيران… ومدى ضيقها ورعبها عند كلّ هزيمة مدوية تتعرّض لها أصدقاؤها ممن يسمّون أنفسهم قوى «الثورة السورية»…! الصغار لا يسألون أنفسهم السؤال البديهي التالي: لماذا يا ترى تكن «إسرائيل» كلّ هذا العداء للدولة السورية، ولماذا تغضب كلّ هذا الغضب عندما تندحر المجموعات الإرهابية أمام الجيش العربي السوري!؟
ما يجري في حلب هو دروس كبرى في الاستراتيجيا والتكتيك سواء في السياسة أو في إدارة الحروب الكبرى والقاسية… طبعاً لمن يريد أن يفكّر ويتعلّم…
فيكفي لمن يريد أن يفهم.. أن يتابع مثلاً نحيب الجبهة المعادية لسورية.. وأن يسأل فقط: لماذا هم ينتحبون؟ ولماذا «إسرائيل» غاضبة جدا…؟
إنهم غاضبون لأنّ مشروعهم الذي راهنوا عليه طيلة خمس سنوات لهزيمة سورية وتركيعها وتقسيمها وتحويلها إلى مجتمع ظلامي سلفي وهابي قد سقط وقضي الأمر…
إنّ ما يخيفهم ويخيف «إسرائيل» الآن هو كيف سيواجهون لاحقاً سورية التي أبادت كلّ القتلة وألحقت الهزيمة بملوك الصحراء والنفط وأجبرت السلطان المتغطرس أردوغان على الوقوف عاجزاً لا يعرف كيف يتقدّم أو يتراجع…
سيقول الكثيرون حلفاء سورية هم السبب… حسناً… وهل هناك دولة في العالم ليس لها حلفاء… أم يريدون أن يقنعونا أنّ حلفهم مع «إسرائيل» وأميركا ولندن وباريس هو حلف مقدس…!
حلب تصنع الآن تاريخها وتاريخنا، حلب تسقط الطائفية والتقسيم والنذالة والتخلف…
الثمن الذي دفعته حلب غال، كبير، عميق وباهظ… ولكن هذا هو قدر المدن الفاصلة في التاريخ… آلامها وتضحياتها تعادل أدوارها الحاسمة…
حلب تكتب الآن التاريخ والمستقبل بإرادة الجيش العربي السوري ورجال المقاومة والحلفاء…
ولكي نفهم قيمة ومعنى وأبعاد ما يجري في حلب لنستمع ونتابع فقط من الذي يبتهج لانتصار حلب ومن الذين يعلو صراخه في دائرة الاشتباك الكبرى… حينها ستكون المقاربة والمعادلة سهلة وبسيطة.
لكلّ هذا أنا الفلسطيني المحاصر بالقهر، أحمل أمنياتي مقاومة وأغني: لك يا حلب من فلسطين سلام… ذلك لأنّ حلب لها الآن معنى إرادة التاريخ الصاعد من لهيب الاشتباك… وإرادة التاريخ حين تحملها وتعبّر عنها مدينة كمدينة حلب وتنتصر… لا يمكن أن تدير ظهرها لفلسطين…