عشق الصباح

ثمّة شوق يُكابدني، كلما تعتكر الروح، وتضيق الجهات من حولي، آتيك يا بحر بخشوع المحبّ وتلهّفه. لا أدري كيف أبحث عن طيفك في الاتجاهات كافة. وأنت تسكنني. ألقيت بقصاصات كتبتها للموج، ترمّد الملح على نزف جرحي. كلما التقيت عينيك، تخصّب خيالي. وصرت أحتاج إلى محبرة وقلم ودفتر. العالم من حولي يضيق وأنت فضاء البوح. ملح البحر يكشف جمال الروح! وفجأةً، اكتشفت أنني لست وحيداً على كتف البحر. ثمة امرأة مخبوءة في سواد عباءتها، تبوح بحكايتها للموج، ينفلت جمالها كوميض ضوء في ليل بلا قمر. شيء ما دفعني لأحكي معها، لكنها حين رأتني لملمت عباءتها وركضت إلى داخل المقهى، تركتني على جرف صخريّ أرقب تلك المراكب التي تنقل الناس والبضائع والزائرين ما بين الشاطئ وجزيرة أرواد. عدت متعباً إلى طاولتي الخشبية، تكدّست فوقها أكوام من الصحف والمجلات وركوة قهوة وفنجان ونرجيلة تنباك عجميّ. غريب أنت. ومهما طوتك الأيام هنا، وجهك شرقيّ الملامح. يشبهُ حبات القمح وفي عينيك أسئلة حائرة. كتبت في الصفحة الأولى: «ما يميّز هذا المقهى البحري الحميمية والدفء، وصوت النادل أبي يوسف يترنّم بأغاني فيروز تارة، وتارة في نص من آيات القرآن بصوت باح محزوناً يلامس الشغاف». توقفت عن الكتابة والتفتّ نحوها قالت: «انظر، لكأن البحر على مدى اتساع الماء ملقى على فراش الشمس. تبدو أشعتها المتوهجة كلؤلؤ يؤدّي طقوس الرقص فوق الموج». أومأت برأسي موافقاً. طبيعة رائعة؟ البحر والنوارس والسماء والشمس، انظر إلى حيث ينكفئ الموج على كتف الصخر وفي نهاية الكورنيش ينزوي العشاق والمحبّون يتبادلون حكاياتهم! ابتسمت وهمست كأنها ترتل أغنية فيروز «شايف البحر شو كبير؟». من دون مقدّمات: «مساءك بحر… يا ويح حالتي وأيّ مساء وأيّ بحر؟ وأيّ امرأة؟ من أين أتيتها تهطل عطراً، عينان كحيلتان ووجه صبوح معجون بخمرة الكرز، وثغر شهقة الورد وصدر مكتنز بالرمان… يا للرمّان!». تابعت وهي تزيدني حيرة: «سمعتك تكلّم الموج، أطربتني كلماتك، شيء ما شدّني إليك».

هل تعاني من مرض ما؟ حين هممت بسؤالها عن مهنتها؟ شدّني بريق عينيها، لمعان ينمّ عن رؤى وأحلام تتوق إلى الضوء، إلى الحياة. هممت أن أقول: «كلّ هذا المرض الذي يحيق بنا وتريدين أن أكون معافى؟»، لكنني قلت: «عندما أكون وحيداً أسترجع ذاكرتي، وتندلق الكلمات للموج، أنا مسكون بالعشق والبوح». تبادلنا الحكايات عن الشمس والبحر والمحبّين والمقهى واللقاءات المؤجّلة. نظرت إلى ساعة تُزيّن معصم يدها، ثمّ إلى البحر، وقالت: «الحديث معكَ شيّق وحميم. كلماتك الطيبة أزالت عن كتفي تلاً من الهموم». تركت طاولتها وجلست إلى طاولتي، تبسّمت، «اطلب لي فنجان قهوة سادة ونرجلية وخلّنا نحكي». إيه يا بحر، الإبداع أرق.

حسن ابراهيم الناصر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى