«لا تأويل فيه»… تدويرات مجازية تنحو نحو مقولات الحياة!
النمسا ـ طلال مرتضى
ما بين عبثيّة التشكيل وحالة خلق الذات، خطّ فاصل بين الحقيقة والخيال، اجترعه الشاعر مجازاً وتاه فيه لينحو صوب أسئلة التحدّي. مَن يعطي، مَن يصنع، مَن يلد، مَن ومَن..؟ إلخ.
إنها الأنثى التي لم تعد نصفاً، وأيّ نصف يبني الكل؟
من الجور ألّا نكن منصفين، حين نطفئ عين الشمس بحجّة اشتياقنا إلى ضوء القمر.
بعضٌ من ورق أبيض، بعضٌ من خواء، بعضٌ من حبر، كلّ ما تحتاج إليه أنثى غامرةً ضياعها، لتصنع حياة.
الشاعرة اللبنانية «لولا»، قبل أن تطوي ضفّتي الورق، تركت هامش الحكاية مشرعاً للضوء عبر عتبة، تنزّهها/ تطهّرها من كل آثامها. «لا تأويل فيه» مطبوعها الجديد من نصوص نثيرة، الصادر عن «دار النهضة العربية» 2016 بيروت.
ومنذ الدلالة الأولى كان الاختباء وراء اصبع الكناية جلياً، وهي حالة إدراك الشاعر في لاوعيه الشعري، النحو بعيداً عن شبهة القول بحامل العتبة العنوان، كتمريرة أخيرة بائسة في مرمى الرقيب.
«لا تأويل فيه»، مطبوع قام قسرياً من رماده، عبر تشكيلات بنائية متخيّلة بروح دراما المقولة وتمسرحها على أرض الورق بلبوس الواقع، أي صناعة حياة في قبض الريح. بدءاً من مرحلة البحث عن الذات ومواجهتها بانكشاف من دون موارة، كيف لا وهي الضائعة بعيداً عنها:
مريضة دون ظلّي
طريحة البلاد البعيدة
والاشتياق
بيروت… لو تعلمين ما أبقيتِ منّي
بيروت…
إن كتفي عارٍ
بارد وثقيل مثل قلبي .
كان يكفي هذا الوجع الوبيل أن تذهب به نحو ضفة الضحك الغارق في الدمع، فلا شيء يصنعه الخواء إلا أناه. بل هي فجيعة المواجهة:
أنا…
أنظر إلى مرآتي وأضحك
وأضحك…
كيف
تتعرّى مرآة
بكامل سرابها
أمامي.
وبما أنه لحظة المكاشفة، اللحظة الوجودية الحية، كان لا بدّ للشاعرة أن تدافع عنها، لا لتتبتّل بل لتقول إني حقيقة فعلية على رغم خوائي، لذا أقرت من دون خجل أوّل وجل، حول سؤال وجودها بالسؤال أيضاً:
أتيت هنا دون إرادتي
ومن منكم أتى بإرادته؟
هل هذا نفي لكلّ ما تقدّم، أم أنها المكابرة وحبّ التعلّق؟ أيّ وجودية، أيّ حياة من دون إثبات في وقت صارت المادية ديدنه؟
هل تشفع كنايات القصيدة ومضمراتها لـ«لولا» عند حواجز القفلات المبنية على الشبهات، وهل استعارتها ثوب الغجرية يعفيها من أن تمرّ من دون عتاب؟
لكنّها عبرت، فقط لأنها الحياة:
غجرية
بلا خلخال
ولا حبيب
بلا أوراق ثبوتية
ترقص الليل على أنغام حنينها
على أوتار القلب
يبكي الكحل في عينيها
أنفاسها ذكرى
ترقص دون خلخالٍ
دون هوية.
نعم الحياة التي تبتدئ في البناء، ليس مهم أن يكون مادياً، البناء متاح بالمجاز، وهو تأسيس حقيقي لحياة كاملة على الورق، من دون تكلف الا من معية القول، إنه البيت الأوّل للشاعر، بيت القصيدة:
يدخل اللون الأسود بين السطور
فتتحوّل القصيدة من خط عمودي
إلى متاهة…
مدخلٌ واحد
جدرانٌ كثيرةٌ وأزقةٌ
ومنفذٌ واحدٌ
يدخلُ اللحنُ
فتكتملُ المكيدة
وينبت على كل جدار
مقصلةٌ جاهزةٌ للبتر
أو صليبٌ علق
بعكس مجاز ما…
القصيدة التي تأتّت كمرتكز «المكان» والذي لا يفي بصناعة حياة الا أن تتدخل الأصابع الرخيمة لتبث فيه روح قدسها وأنفاسها الدافئة، كان هذا ديدن الشاعرة منذ نصها الأول المتعالي بحامل العنوان إلى الخاتمة، عندما مرّرت في تشكيلاتها النثيرة وبتواتر مناجاة السماء التي تهب الماء، بالمطر وحدها تحيا القصائد وتزهر:
أنتظر المطر.
الغيمة الحبلى لا تنتظر.
وبدأت زخات المطر تنقر قلبي
أدخل الآن
وقد
أعود غداً.
ماذا لو جمعت حبّات المطر؟
قد أصير هناك
سنينك مواسمك أرضك
وكل محاصيلك.
عبر دورة الحياة التي وكما عادتها لا تكتمل، شرعت الشاعرة «لولا» كل ممكناتها الشعرية، بلغة سهلة ممتنعة غير متكلفة، أحادية الصوت، دوالّها مسفوحة عرضة لعابري الحروف، مضمرها حامله الأنا، أي دورانها في فلكها، فقط احتفظت بكود نصوصها على مدّ القول في جعبتها عندما بقي خطابها موجه نحو اللاموجود «يالغريب» مستسلمة لخاتمة إرادتها كما الحياة العادية، كوضع حدّ لمناكفة الحروف، أو إهماد نزف القصائد بـ«الكي» كونه آخر الطب عند العرب:
كلّ قبائل الغجر التي تسكنني…
كلّهم
إلى عدم
أيّ حقيقة أنا، ولا حقيقة إلا الموت.