ندوة لمركز دراسات الوحدة حول كتاب «الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان»
ضمن إطار نشاطات اليوم التاسع من معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، نظّم «مركز دراسات الوحدة العربية» ندوة حول كتاب «الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان»، للكاتب مشير عون، شارك فيها الدكتور نادر البزري، الدكتورة مارلين كنعان، وأدارها الدكتور أنطوان سيف، وسط حضور حشد من المهتمّين والمثقفين.
افتتح سيف الندوة بالإشارة إلى أن لبنان الحديث بات من أولى الجمهوريات في الشرق في تنوّع مكوّناته الاجتماعية التي لعب التوازن الديمغرافي فيه من الدين والمذهب، قاعدة لقبول التنوّع في مختلف وجوهه، في عالم باتت وسائل الاتصال والمواصلات سريعة ومميّزة له مع تطوّرها المتواصل. فالخصوصية اللبنانية أغنت العمومية الثقافية العربية بأنماط شتّى هي حصيلة الانفتاح والتنوّع. وكانت مصر مجالاً واسعاً وفاعلاً في النهضة العربية المعاصرة التي رفدها اللبنانيون بكثير من خبراتها وغنى تجاربهم، ولا تزال آثارهاً باقية في جريدة «الأهرام»، وفي مجلة «الهلال» لجرجي زيدان، ومجلة «المقتطف»، هذه المجلة العظيمة كما وصفها ناصيف نصّار بأفاعيلها الحضارة العلمية.
واستطرد قائلاً: إلا أن الخلفيات الحاضنة في البيئة اللبنانية وامتدادتها والتي نالت شرعيتها العربية من هذه الانجازات الثقافية قبل سواها والتنوّع المعترف به الذي تمظهر في الحرّيات العامة المتنفس العربي، هي التي تفسّر الإنجازات الثقافية المختلفة في لبنان لمفارقة حجمه الديمغرافي ولا تساعد الجغرافي. لقد كان لبنان، بهذه الصيغة المنفتحة المتنوّعة حاجة عربية ومستقبلاً عربياً نهضوياً، «الفكر الفلسفي المعاصر في لبنان»، وبلغاته الأخرى غير العربية وإضافة إلى العربية، هو قبس من هذه «النهضة».
بدوره، ركّز الدكتور البزري على ظاهرة الاشتغال بقضايا الفلسفة في لبنان والتدبّر بحيثيات ممارستها من قبل مقيمين على الأراضي اللبنانية، ومن لبنانيين أقاموا أو لا يقيمون في بلاد المهجر. ورأى أنه لا يودّ الدخول في تفاصيل التصنيفات المدرسية أو التسرّع في ترصّد قابلية الفلسفة للانتماء هوية وطنية معينة أو التطبّع على سياساتها التاريخية. ولا يمكن الركون هنا فقط إلى الأبعاد الوجودية المرتبطة بعوامل السكن على الأرض اللبنانية من دون التفكّر بالمعوقات الابيستيمية التي يمكن أن تتأتّى عن الروابط الاجتماعية والدينية، بما لها من أعماق تاريخية ولغوية ومؤثرات في الاصطباغ المعرفي ولو مداورة عبر تأثير الحيّز البيئي المحيط على طبائع الفكر وما يحمله من أنظومات دلالية في إفصاحات أصيلة لاختبارات وتجارب حياتية، لا تقتصر على الصفات الانتمائية الضيقة في تطبيع الذهنية المعرفية على صورة وطنية، حتى ولو كانت هذه متشظّية في ماهيتها كما الحال مع الأطياف الاجتماعية اللبنانية. وليس لزاماً أن تمرّ الفلسفة محلياً أو قطرياً أو إقليمياً عبر الافصاح المعرفي من خلال اللغة العربية حصراً. أو عبر الاجتهاد في استحداث الألفاظ المعربة التي تواكب مثل هذا المسعى في سياقاته الناظمة للمعارف والاستحصال عليها. ولا يتطلب مثل هذا النشاط الانخراط المباشر في معالجة القضايا الاصلاحية والاحيائية والنهضوية، ضمن إطار الاجتماع اللبناني ومحيطه الاقليمي الأوسع، أو الركون إلى الحاضنة البيئية المباشرة والعينية كمصدر أساسي لمولدات الفكر، على رغم تأثير المحيا اليوميّ عبر التعايش التفاعلي جنباً إلى جنب أو وجهاً لوجه مع الآخرين وما لذلك من ارتدادات في ظهر الوعي الذاتي والفردي.
وأضاف: وقد يقتصر هذا على التأثير المؤسساتي، فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا نظرنا إلى السيرة المهنية لأستاذ في الفلسفة يدرّس منذ سنوات في جامعة خاصة في لبنان لنقل هنا مثلاً AUB ، ولا ارتباط له بالهوية اللبنانية، وهو من أصول أوروبية أو أميركية. مثل هذا الزميل يتفاعل مع الجامعة سواء على مستوى الطلبة والزميلات والزملاء والادارة والمحيط الاجتماعي داخل الحرم الجامعي ومن حوله في بيروت. فتتداخل هنا الشؤون الشخصية اليومية والمطلبية مع أحوال الجماعة على الصعد البيئية والثقافية والاجتماعية. فهذا الزميل يمارس الفلسفة في لبنان من خلال الانتماء إلى الفضاء الأكاديمي على الأراضي اللبنانية وفي أشكال مؤسساتية للتدريس والبحث والنشر والمشاركة في المؤتمرات تحت اسم الجامعة الثقافية في لبنان.
بدورها، قالت الدكتورة كنعان: يتناول هذا الكتاب بالدرس والتحليل نصوصاً فلسفية معاصرة خطّها «شيوخ الفكر» في لبنان باللغات: العربية أو الفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية، وها هي هذه النصوص الفلسفية تستنهض بدورها نخبة من العاملين في حقل الدراسات الفلسفية بغية تبيان معالمها واستحلاء خصائصها، واستطلاع آفاقها وتأريخها في كتاب مرجع يؤكّد أن النصوص التي أنشأها هؤلاء اللبنانيون كجيروم غيث وفريد جبر.
وأشارت إلى أنه في مقدّمة الكتاب القيّمة يعيد مشير عون طرح السؤال الأزلي عن قابلية الفلسفة للانتماء إلى القوميات والأوطان والسياسات والأديان واللغات مقابل فكرة كونيتها، متناولاً المواضيع التي عالجها هؤلاء المفكرون اللبنانيون والتي تستجيب بطريقة ما لمعاناتهم وخصوصيتهم الوجودية جاهداً في استخراج سمات فكرهم وتعابيرهم وتوجّهاتهم وبُناها الفكرية وتعالقاتهم مع النبي والمذاهب الفلسفية العالمية والتراث العربي، مؤكداً ما قاله بولس الخوري عن انتقائية وتوفيقية هذه الفلسفة. ولعلّ مجموع الدراسات الرصينة التي درست بدورها هذه النصوص تحاول هي أيضاً التوسّع على طريقتها في توضيح هذه المسألة.
وأضافت: أما الدراسات التي يؤلّف مجموعها متن الكتاب والتي حاولت إلى جانب التعريف بـ«الفلاسفة» اللبنانيين ونتاجهم، الإحاطة بأطروحاتهم الأساسية أو بجانب مهمّ منها، والتي أشيرَ إليها وفق تسلسلها في الكتاب، كهذه التي وقّعها سايد والتي تناولت «مسألة الحرّية في أصلها الانطولوجي ومعناها النهضوي، عند شارت مالك»… فإنها تتوغل في أعماق هذه النصوص وهيكلياتها وفق منهجية واضحة، فتلاصقها وتسائلها في سعي علميّ رصين… بدورها تحاول دراسة ناصيف قزي لنصوص «فيلسوف العروبة ولبنان كمال يوسف الحاج»، والتي أرفقها بمختارات من كتابات الحاج، ودراستا مشير عون لموضوع «تأصيل المحدودية الإنسانية عند بولس الخوري»… ليس فقط الإضاءة على الأفكار الأصيلة والمناهج الصارمة التي اتّبعها وقال بها هؤلاء الفلاسفة، بل تتعدّاها لتغوص في بطون هذه النصوص، فتحلّلها تحليلاً متصاعداً دقيق الاستدلال.
وختاماً، قالت: قد تكتفي بعض هذه الدراسات بعرض سيرة الفيلسوف وفكره. وقد تتساوى بعض الدراسات الأخرى في أهميتها بالنصوص الفلسفية التي تعالجها ولعلّها تفصح بدورها عن قراءات فلسفية نقدية قيّمة، في قراءات فلسفية أخرى سبقتها، توافقها أحياناً، أو تتجابه معها أحياناً أخرى، بعيداً عن النزعة النصية. غير أنّ عدداً لا يستهان به من هذه الدراسات يطرح على القارئ سؤالاً أساسياً، وهو سؤال توقيت مقاربة نتاج فلسفي لم يكتمل بعده من زاوية دراسة فكر لم يزل في عزّ عطائه.