التنمية البشرية المستدامة في فكر أنطون سعاده

سماهر الخطيب

التنمية بدأت كمفهوم يعكس التغيّرات التي ظهرت في العالم عموماً بشكل خاص بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتركيز الدول على مفهوم التنمية البشرية والاجتماعية أو بمعنى أصحّ على مفهوم التنمية البشرية المستدامة بعد أن كانت تعنى فقط بالناحية الاقتصادية ولكنها اتجهت نحو التنمية الشاملة ومن خلالها كانت المعايير التي تميّز بين البلاد المتخلفة والبلاد المتحضّرة بحيث يكون مدى الازدهار الاقتصادي والسياسي والعلمي انعكاساً للوضع الاجتماعي والثقافي والبيئي للأفراد، وبذلك تتحدّد مدى قوة الدولة وكيفية تأثيرها في مجرى الأحداث العالمية.

وهذا ما دفع الأمم المتحدة إلى إعطاء حق التنمية الأولوية في أهدافها باعتبار الإنسان هو الموضوع الأساسي في التنمية البشرية، وكما أنها أعلنت وثيقة حقوق الإنسان كذلك كان الإعلان العالمي لحق التنمية الذي اعتمد ونشر في 4 كانون الأول عام 1986 حيث جاء فيه «انّ التنمية عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمرّ لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة الهادفة، في التنمية وفي التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها».

وبالعودة نحو الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي كان أساس نشأته هو النهوض بالأمة السورية حيث أراد مؤسّسه الزعيم أنطون سعاده تحقيق النهضة القومية الاجتماعية وتأسيس المجتمع الجديد بتعاليمها ودعائمها من خلال نظرة جلية قوية إلى الحياة والعالم أساسها الإنسان بما يكتنزه من أفكار ومبادئ كون العقل هو الشرع الأعلى.

هذه النهضة التي تأسّس الحزب لأجلها منذ عام 1932، أيّ ما قبل الحرب العالمية الثانية، هي بالذات ما اجتمعت عليه الدول في ما بعد الحرب العالمية الثانية لتسميتها بالتنمية الشاملة، وكان المفكر والباحث وباعث النهضة القومية الاجتماعية هو من ابتكر هذا المصطلح لإعلاء شأن الأمة وجعلها صاحبة السيادة على نفسها ووطنها من خلال نهضة تغيّر وجه التاريخ بالاعتماد على القوة الحقيقية، قوة السواعد والقلوب والأدمغة، وبالتالي كانت المبادئ الأساسية في الحزب هادفة إلى التحرّر من الإرادات الخارجية واكتساب الحيوية والإرادة المستقلة لشخصية الأمة بما يجعلها فوق جميع الأهواء والنزعات الفردية، وبالتالي إلغاء الإقطاع وتنظيم الاقتصاد القومي على أساس الإنتاج الذي يسفر عنه النجاح الاقتصادي حيث لا بدّ منه لتوفير القوة المادية والحياة الصحيحة وهو تماماً ما دعت وركزت عليه الدول جميعاً في مفهوم التنمية.

وكما ركزت الأمم المتحدة على الإنسان ما بعد الحرب العالمية الثانية كونه الأساس في التنمية البشرية فإنّ سعاده أكد على ذلك في الدعوات الأولى لأفكاره القومية نحو نظام جديد يهدف إلى تحقيقه من خلال رؤيته القائمة أساساً على الإنسان بكونه أساس النهضة بما يمتلكه من قدرات وخير وحق وجمال لتنصهر جميعاً في مصلحة الأمة.

أما النهضة الاقتصادية فرؤية سعادهللاقتصاد القومي كانت على أساس الإنتاج لكونه الطريقة الوحيدة التي توجد توازناً صحياً بين توزيع العمل وتوزيع الثروة، بحيث يكون كلّ عضو في الدولة هو عضو منتج، فالاقتصاد لديه يجب أن يعني الإزدهار وليس البقاء على الاستمرار في الحياة، بالتالي يجب أن يعني توفير إمكانيات التقدّم والتمتع ورفع مستوى المصالح المادية والفنية والنفسية للشعب الواحد، وما من عمل أو إنتاج في المجتمع إلا هو عمل أو إنتاج مشترك أو تعاوني. ورأى سعادة أنّ هذا الأمر لا يمكن أن يتمّ دون إقامة نظام عدل اجتماعي حقوقي مترافق مع عدل اقتصادي حقوقي يضمن توزيع الإنتاج بين الأفراد بحيث يجب أن يصير الجميع منتجين، ولذلك كان مبدأ الإشتراك في الإنتاج اشتراكاً فعلياً شرط الاشتراك في الحق العام فيتوجب على الجميع أن يعمل لنهضة صناعية زراعية اقتصادية قوية، وبهذا العمل وهذا الإنتاج يمكن النظر في التوزيع العادل للجميع ليحيوا الحياة اللائقة بالإنسان المتمدّن الراقي.

وعلى مستوى النهضة السياسية نجد السياسة عند سعاده فن بلوغ الأغراض القومية وتحقيق الغايات القومية التي يجب على كلّ فرد أن يرتبط فيها لأنها رابطة المجتمع، فالسياسة وسيلة لا غاية لبلوغ الأغراض القومية بأقرب الطرق وأقلّ التكاليف وليست مهنة خاصة يحترفها بعض الأفراد ويحتكرون بواسطتها النفوذ وتقرير مصير الشعب، ومن هذه الناحية كان لا بدّ من إيجاد نظام جديد لا يستعبد الناس إنما يحرّرهم من استبداد النظرة الفردية، وبالتالي كانت الحركة القومية حركة هجومية لا دفاعية، لكنها هجوم بالفكر والروح وهجوم بالأعمال والأفعال معاً على الأوضاع الفاسدة القائمة والتي تمنع الأمة من النمو ومن استعمال نشاطها وقوتها، كما أنه هجوم على المفاسد الاجتماعية والروحية والسياسية والنظرة الفردية وبناء نظام جديد يكون بإعادة الثقة والإيمان بالنفس بعيداً عن التبعية للأجنبي، وبعيداً عن التدخلات الخارجية بتنظيم حركة تؤدّي إلى استقلال الأمة استقلالاً تاماً بحدودها الطبيعية، وليست السياسية، بما يثبت سيادتها وتأمين مصالحها ورفع مستوى حياتها، فغاية الحزب لدى مؤسّسه بعيدة المدى عالية الأهمية لأنها لا تقتصر على معالجة شكل من الأشكال السياسية بل تتناول القومية من أساسها لتتجه نحو الحياة القومية بما تتطلبه من فصل الدين عن السلطة ومنع رجال الدين من التدخل بالشؤون السياسية.

وبالنسبة للنهضة الاجتماعية فإنّ غاية الحزب في فكر سعاده هي توجيه حياة الأمة نحو التقدّم والفلاح وتحريك عناصر القوة القومية فيها لتحطيم قوة التقاليد الرثة وتحرير الأمة من قيود الخمول والسكون والعقائد المهترئة وإنشاء تقاليد جديدة ترسخ فيها النظرة الجديدة إلى الحياة وترسخ المبدأ القومي الاجتماعي، وبالتالي التطور والارتقاء نحو أفضل المثل العليا باعتبار مسألة الأخلاق من أفضل مسائل النهوض التي هي مسألة عقلية وروحية حقة، والتي يمكن أن تفعل وتغيّر في الجماعة، واعتبر المبادئ الأخلاقية أهمّ من الحياة نفسها بحيث نشأت النهضة على قواعد فكرية فلسفية عميقة تناولت المسائل الأساسية الغير منسوبة لوقت أو حالة تزول بزوالها بل ابتدأت بمن نحن؟ بمعنى ماهية الجماعة الإنسانية كتعبير عن حقيقتها ووجودها وجوهرها بغضّ النظر عما تحتويه هذه الجماعة من اختلاف طائفي أو مذهبي أو عرقي، فما يجمعهم هو وحدة الأرض مع وحدة الفكر والحضارة.

هذه النهضة التي تأسّست عام 1932 تدرّس اليوم في الجامعات والمدارس وتكون البرامج الإنتخابية لكلّ مرشح رئاسي والخطة الإستراتيجية لكلّ الدول التي استفاقت بعد الحرب العالمية الثانية على كوارث بشرية لتدرك أنّ عودتها كدولة فاعلة في النظام الدولي لا تتمّ إلا من خلال نهضة شاملة أو كما يسمّونها تنمية شاملة، ولكن بالنظر إلى كيانات الأمة التي تكون الدولة القومية التي بعث سعاده فكرة حقيقة وجودها كأمة تحيا بنهضتها الشاملة.

ولكن بعد 84 عاماً على النأسيس لا تزال تلك الكيانات غارقة في تعدّد انتماءاتها وضياع وجودها القومي، لحساب الوجود الطائفي والمذهبي والفردي وعرضة للتدخلات الخارجية والتقسيمات المصلحية.

وبعد ثمانية عقود من الزمن ونيّف ألم يحن أوان تطبيق مبادئ النهضة؟ ألم تعطهم تلك السنوات التي مرّت بما احتوته من مآس وحروب ومعارك طائفية وعرقية درساً بأنّ الحلّ هو بنهضة شاملة بعيدة عن التبعية والتدخلات الخارجية، حتى أنهم لم يفكروا بتدريس أفكار ذلك المفكر والمؤسس لفكرة النهضة في الجامعات والمدارس، وهو أقلّ ما يمكن فعله للسير بطريق النهضة الفكرية والثقافية والاجتماعية، وهو ما قامت به الأمم المتحدة تحت مسمّى حق التنمية فأين حق النهضة يا شعوب النهضة القومية؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى