يبقى الهلال خصيباً إذا تحرّر ووُحِّد
د. عصام نعمان
عرفتُ توفيق مهنّا دائماً مناضلاً وطنياً عنيداً. لم اكتشفه كاتباً ومستشرفاً استراتيجياً إلّا بعد صدور كتابه «ليبقى الهلال السوري خصيباً». التفسير الوحيد لاكتشافي المتأخر أنّ توفيق مهنّا يكتب ليحاضر في ندوات متخصصة، وقلّما كان ينشر محاضراته. لكنه تجاوز أخيراً تواضعه غير المبرّر فأفرج عن محاضراته وأفكاره ورؤاه ونشرها لتكون في متناول الجمهور والمثقّفين الملتزمين قضايا الأمة.
تخيّر توفيق مهنّا مناسبة تاريخية لإصدار كتابه. إنها مرور مئة سنة على اتفاقية «سايكس ـ بيكو» ووعد بلفور المشؤوم 1917 اللذين أدّيا إلى تقاسم بلدان الهلال الخصيب وتوزيعها مناطق استعمار ونفوذ بين بريطانيا وفرنسا، كما مهّدا إلى اغتصاب الحركة الصهيونية فلسطينَ بالتواطؤ مع كبريات دول حلف شمال الأطلسي.
الهلال الخصيب في عرف مهنّا هي البلاد التي تضمّ جغرافياً: فلسطين، لبنان، الشام، الأردن، العراق، الكويت وقبرص، وهي المناطق الواقعة بين نهرَي النيل في أقصى جنوب سورية الطبيعية والفرات في أقصى الشرق.
إذ يتصدّى مهنّا لمعالجة حال الأمة المتفجرة أزماتها في كلٍّ من بلدان الهلال الخصيب، يحرص في تحليلاته الثاقبة على الاستشهاد بأفكارٍ ورؤى استشرافية لأنطون سعاده الذي كان سبّاقاً إلى إدراك مخطّطات دول الغرب المستعمرة والتحذير من مراميها العدوانية ومن مخاطر زرع كيان لليهود الصهاينة في فلسطين. والحق أنّ مهنّا وإن كان شديد الإعجاب بسعاده، إلّا أنه شديد الحرص والموضوعية أيضاً في انتقاء وتوثيق ما كان أورده الزعيم من أفكارٍ وتحليلات وتوقّعات في صدد المخطّطات الاستعمارية والمخاطر الصهيونية.
في هذا السياق، وإزاء تخلّي قيادة منظمة التحرير الفلسطينية عن إسناد انتفاضة أطفال الحجارة أواخرَ ثمانينات القرن الماضي، وجنوحها إلى الاستعاضة عن المقاومة بالمفاوضة بغية الحصول على دولة فلسطينية في الضفة الغربية وغزّة صفحة 18 ، يذكّرنا مهنّا بتنبيه مبكر كان أطلقه سعاده في مطلع العشرينات بأنه من العبث والتفكير أو العمل بفكرة أن التحرير ممكن من دون الاستناد والارتكاز إلى القوة القومية وتضافر جهود كلّ قوى الأمة. فلا تحرير حيث لا وحدة. ذلك أن المعركة الدائرة مع كيان الاغتصاب معركة وجود شاملة وجذرية وتستدعي زجّ كل إمكانيات الأمة فيها صفحة 15 . وفي ضوء هذا النكوص عن نهج المقاومة، يدعو مهنّا قيادة الانتفاضة إلى «أن تعيد رسم معادلة الصمود وأن تدفع نحوها وتحرص عليها وتضع حدّاً للنهج السائد قبل فوات الأوان».
إزاء جنوح القيادة الفلسطينية إلى خيار التسوية على حساب نهج المقاومة من دون أي طائل، استخلص مهنّا ما سمّاه استنتاجات لها طابع تاريخي وحاسم:
ـ الأمة التي تقبل واقع التجزئة لا تقدر على انتزاع حقّها المغتصب أو الدفاع عن حقوقها الباقية.
ـ الأمة التي تراهن على القرارات الدولية ولا تراهن على إرادتها وقوّتها الذاتية لا تقدر على استعادة حقّها القومي المغتصب.
ـ الأمة التي تنتهج نهج الدبلوماسية والتفاوض والتسوية وتركن إلى مساومات لعبة الأمم وتتخلّى عن خيار المقاومة لا تقدر أن تستردّ حقها القومي المغتصَب أو ما تبقّى منه صفحة 265-264 .
إلى ذلك، يعزو مهنّا حرب الولايات المتحدة الأميركية واحتلالها العراق 2003 إلى دوافع صهيونية، سياسية وأمنية. ويعتبر الاحتلال «منصّة على طريق مشروع لتغيير شامل في مجتمعات العالم العربي وبنيتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية والجيوسياسية، وهو عملية انقلاب كاملة ترمي إلى دمج الكيان الصهيوني، وتغريب ثقافة المنطقة وصهينتها … إنه مشروع تغيير الأنظمة السياسية والمجتمعات العربية عى حدّ سواء». مع ذلك، يستلهم مهنّا حسّه القومي المقاوم فيتساءل: «من أين نقرأ تاريخ العراق والمنطقة؟ من يوم سقوط بغداد واعتباره عيداً وطنياً يا خجل التاريخ! ؟ أم نقرأه بأفق المستقبل الذي تصوغه المقاومة العراقية؟ صفحة 194-193 .
مخطّط أميركا الذي كشفه مهنّا أخفق، ما حملها لاحقاً على استدراج تنظيمات الإرهاب والعنف الأعمى وتوظيفها في حرب طائفية داخلية لتقسيم العراق إلى ثلاث دويلات كردية وسنّية وشيعية. لكن مخطّطها الثاني أخفق أيضاً، وها هي المقاومة العراقية تنظّف هذه الأيام بلاد الرافدين، في الموصل وغيرها، من رجس الإرهاب وتصوغ ـ كما توقّع مهنّا ـ مستقبل العراق.
بالتزامن مع حرب الإرهاب على العراق، كانت الولايات المتحدة بالتعاون مع تركيا وبعض دول الخليج تدعم حرباً إرهابية مغايرة تحت ستارة «ثورة قوى المعارضة السورية». وإزاء لجوء التنظيمات الإرهابية إلى «استنباط اجتهادات وتأويل بعض الآيات الدينية لأغراض سياسية بغية تبرير أعمالها الإجرامية»، ذكّرنا مهنّا مجدّداً بمقالة لسعاده كان نشرها في جريدة «الزوبعة» بتاريخ 4 أيلول 1944 جاء فيها: «ومن مدهشات الدعاوى السياسية اللابسة لباس الدين محاولة إظهار الحركة الوهابية، وهي ليست سوى رجوع بالمحمّدية إلى أوليات التفكير العربي الصحراوي المحدود، بمظهر حركة إصلاحية في الدين» صفحة 298 .
ويرى مهنّا «أنّ القوى الاستعمارية تنظر إلى حركات مقاومة الشعوب غزواتها على أنها حركات ارهابية. فالولايات المتحدة الأميركية رعت، مثلاً، ظاهرة أسامة بن لادن ودفعت المملكة العربية السعودية إلى تمويل جهاده في أفغانستان لمقاومة الغزو السوفياتي، واعتبرته ومجموعاته مقاتلين من أجل الحرّية Freedom fighters ودفعت بهم من جديد إلى سورية تحت مظلّة أنها قوى جهادية … تحاربها في العراق وترعاها في سورية كما فرنسا التي تحارب الإرهاب في مالي وترعاه في سورية. لكن في أحيان كثيرة ينقلب السحر على الساحر» صفحة 308-309 . هذا الكلام قاله مهنّا في محاضرة له في 7 أيار 2014، وها هي ازدواجية المعايير التي أشار إليها تنكشف في حلب ودير الزور ودرعا، وها هو السحر ينقلب على الساحر.
الإرهاب ورعاته الأطلسيون والخليجيون لم يوفّروا لبنان واللبنانيين. لكن مهنّا أرجأ الخوض في ما قاموا به من جرائم ومجازر، مؤثِراً البحث في الطائفية بما هي جذر المشكلة المزمنة التي يعانيها لبنان وتتفرّع منها مشكلات وتتوالد مضاعفات كثيرة ليس أقلها الإرهاب. والحقّ أن مهنّا نجح في دراسته المعمّقة تلك عن الطائفية في جذورها ونتائجها وقواعد معالجتها، مستخلصاً في سياقها أربع حقائق:
ـ أولاها أن الطائفية هي سمة تخلّف ووليدة الانحطاط.
ـ ثانيتها أن الطائفية هي رابطة حرب بين اللبنانيين، وبقاؤها يعني بقاء جذور الشقاق والقتال والفتنة.
ـ ثالثتها أنّ الطائفية هي رابطة للحماية الأجنبية الدائمة.
ـ رابعتها أنّ الطائفية تُفاقم مشكلة الأقليات والأكثريات ولا تحلّها.
معالجة الطائفية تكون بتجاوزها وفق مناهج وآليات للإصلاح السياسي يرى أنها متوفّرة في برنامجين جدّيين، هما برنامج الثورة القومية الاجتماعية الأولى، ثورة الثامن من تموز 1949، وبرنامج الحركة الوطنية اللبنانية للإصلاح السياسي الذي طرحه كمال جنبلاط عام 1976.
يتقاطع البرنامجان في مناهج وآليات وإصلاحات عدّة. غير أنّ برنامج الحركة الوطنية يتميّز باعتماده قانوناً للانتخابات على أساس التمثيل النسبي في دائرة وطنية واحدة. كلّ ذلك من أجل بناء دولة مدنية ديمقراطية على أسس المواطَنة وحكم القانون والمشاركة والعدالة والتنمية.
الفصل الأخير في كتاب مهنّا محاضرة كان ألقاها بتاريخ 4 أيار 2016 واستشرف فيها أبعاد الصراع في المشرق العربي. وتساءل عمّا إذا كان تضارب المصالح بين مختلف اللاعبين يؤدّي إلى حرب كونية ثالثة.
يرصد المؤلّف في المشرق العربي الأبعاد والظاهرات والتحوّلات التالية:
أولاً: تواصل مخطّطات التقسيم من اتفاقية «سايكس ـ بيكو» حتى الوقت الحاضر. خطر التقسيم يواجه العراق وسورية ولبنان. لكنه يستهدف سورية بالدرجة الأولى لدورها كحاضنة للمقاومة في فلسطين ولبنان، وكجسر استراتيجي يربط إيران بالبحر المتوسّط ويهدّد الكيان الصهيوني، وكراعية «لفكرة الوحدة العربية»، ومقاومتها الثابتة الصلحَ مع «إسرائيل».
ثانياً: صمود المقاومة في لبنان وفلسطين وإخفاق محاولات إغراقها في فتنة سنّية ـ شيعية، وتحوّل مقاومة حزب الله إلى قوّة إقليمية وازنة.
ثالثاً: فشل مشروع «أخونة» دول المنطقة وأسلَمَة أنظمتها، لا سيما في مصر وتونس.
رابعاً: صعود تنظيمات «الإسلام الجهادي»، لا سيما «داعش»، ثم تراجعها التدريجي وربما أفولها.
خامساً: عودة روسيا إلى المنطقة، لا سيما إلى سورية، وانعكاس هذه العودة على علاقات القوى فيها.
هذه التحوّلات والتحدّيات يقترح المؤلّف مواجهتها بسلاح المقاومة والتمسّك بخيارها وتعزيز محور المقاومة. وببناء منظومة التكامل بين دول الهلال السوري الخصيب وصولاً إلى مجلس التعاون المشرقي. وبثقافة الوحدة في مواجهة مشاريع التقسيم والفدرلة. وبتوجيه بوصلة الصراع نحو عدوّين: الإرهاب الصهيوني والقوى الظلامية الإرهابية. وأيضاً بتأسيس مفهوم العروبة على أسس جديدة بغية إقامة جبهة من الدول العربية، تواجه الاستعمار والصهيونية وأدواتهما في المنطقة.
عرفنا توفيق مهنّا في مسيرة حياته مناضلاً عنيداً. ها هو يتجلّى في كتابه مفكّراً وكاتباً واستراتيجياً مستشرفاً ومقنعاً. غير أنه يبقى في كلا الصفتين والدورين هو نفسه… المناضل القومي الملتزم قضية أمته إلى أبد الآبدين.
كلمة ألقاها الوزير والنائب السابق د. عصام نعمان خلال ندوة نظّمتها «دار الفرات» حول كتاب «ليبقى الهلال السوري خصيباً»، لكاتبه عضو المجلس الأعلى في الحزب السوري القومي الاجتماعي توفيق مهنّا، وذلك السبت الأربعاء 7/12/2016 ضمن فعاليات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب في «بيال».