الحزب السوري القومي الاجتماعي… مدرسة عقائدية تثقيفية

عبد الغني البيلاني

«الحزب السوري القومي الاجتماعي لم ينشأ حزباً سياسياً للأغراض السياسية فحسب، بل حزباً تعليمياً ومدرسة عقائدية تثقيفية» بهذا القول يؤكد سعاده على حقيقة أنّ الهدف من فعل التأسيس لم يكن للأغراض السياسية البحتة أو للغوص في ترهاتها، ويظهر ذلك جلياً واضحاً أيضاً في الرسالة التي وجهها من السجن لمحاميه، يذكر في مقدمتها سؤال جوابه غيّر مسيرة حياته وأعطى بارقة أمل لنا ولمعنى وجودنا وصيرورتنا. ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟ ليجيب عليه بعد البحث والتمحيص «بديهي أني لم أكن اطلب الإجابة من أجل المعرفة العلمية فحسب، فالعلم الذي لا يفيد كالجهالة التي لا تضرّ، وإنما من أجل اكتشاف الوسيلة الفعّالة لإزالة أسباب الويل، وبعد درس أوّلي منظم قرّرت أنّ فقدان السيادة القومية هو السبب الأول… ويتابع: ولما كانت دروسي الاجتماعية والسياسية والاقتصادية قد أوصلتني إلى تعيين أمتي تعييناً مضبوطاً بالعلوم المتقدمة وغيرها، وهو حجر الزاوية للبناء القومي، والى تعيين مصلحة أمتي الاجتماعية والسياسية من حيث حالاتها الداخلية ومشاكلها الداخلية والخارجية وجدت أنه لا بدّ لي من إيجاد وسائل تؤمّن حماية النهضة القومية الاجتماعية الجديدة في سيرها. ومن هنا نشأت فيّ فكرة إنشاء حزب سري». وهنا يتداول البعض وجهة نظر خاطئة حين يقولون إنّ فترة الإمساك بالحزب أو الإشراف عليه أو حكم الزعيم له امتدّ من عام 1932 إلى 1949 والحقيقة هي، الفترة الأولى من 1932 إلى 1938 أيّ ست سنوات بعدها حدثت فجوة السنوات التسع في الاغتراب إلى حين العودة الشهيرة للوطن في 2 آذار 1947، وليمضي جزءاً غير يسير منها في معالجة قضية انحراف نعمة ثابت، ويعمل بعدها على إنشاء الندوة الثقافية عام 1948 التي تعتبر بداية إعادة الأمور إلى نصابها، لتمتدّ يد الغدر والخيانة إليه في 8 تموز 1949، وهنا أسمح لنفسي أن أسجل حقيقة تاريخية خلال مسيرته النضالية منذ التأسيس إلى ساعة الاستشهاد كان يستخدم أغلب الأحيان عددا من الكلمات تشير إلى الحزب أهمها:

1 – النهضة: كإشارة مباشرة لغاية الحزب – بعث نهضة سورية قومية اجتماعية تكفل تحقيق مبادئه وفي المحاضرات ص 9 النهضة، إذاً، هي الخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة، هذا هو معنى النهضة لنا.

2 – المؤسسة: تكريساً لأهمية العمل المؤسساتي الذي ينقذ المجتمع من الفردية أو الشخصانية ومساوئهما، «في الأفراد فقط تلعب المفاسد ولا يمكن لهؤلاء أن يصموا المجتمع كله بالمفاسد التي في أنفسهم» محاضرات ص 15.

3 – الحركة: كدلالة على «حياة أمة بأسرها أي أنه يتناول كل نواحي حياة الأمة» رسائل ص163، وكتنويه لطبيعتها ومهامها قال: الحركة القومية الاجتماعية هي حركة صراع لأنها حركة حرية وحركة انتصار لأنها حركة حق ج 16 ص 76. مما تقدم نلاحظ أنّ فكرة الإنشاء أو التأسيس للحزب كانت لحضن القواعد التي أرساها بعد وصوله إلى تعيين أسباب الويل، وهذا يشير بوضوح إلى تطابق ما بين الفكر والنهج في حياته العملية وإثبات ذلك ورد آنفاً أثناء بحثه عن الوسائل التي تؤمّن حماية النهضة.

جوهر الحياة…

يقول المثل الصيني «يمكن للإنسان أن يعيش بدون قدمين أو يدين لكنه لا يستطيع بدون رأس» ليأتي سعاده ويوضح أنّ هناك بوناً شاسعاً بين العيش والحياة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى القيمة الاجتماعية الضامنة في الإنسان، حيث يثبت سعاده أنّ وجود الرأس في مكانه لا يكفي ويؤكد على أهمية إشغال العقل داخله وأنه «لم يوجد عبثاً، لم يوجد ليتقيّد وينشلّ، بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصّر، ليميّز، ليعيّن الأهداف وليفعل في الوجود». أيّ بمعنى تنشيط الحواس والاستفادة من مكامن موجودة في العقل ولكنها معطلة بحاجة للإيقاظ ودفعها وتنشيطها لتقوم بمهامها فكلّ مكمن من هذه الأبواب السبعة له دوره ووظيفته الفاعلة في بناء الإنسان ومحيطه بدءاً من أصغر متحد في المجتمع الأسرة، ولذلك أطلق علماء الاجتماع على سعاده لقب متنوّر لأنه لم يكتف بالمعرفة التي وصل إليها بل أشار إلى الجوانب المظلمة في عقل الإنسان وأنارها لكي تعمل وتنتج، ليرتقي الفرد ولتسمو ذاته الشخصية وصولاً للذات المجتمعية، التي بدورها تنشط ويؤدّي طريق إنتاجها وعملها للإضاءة على الذات الوطنية. مما تقدّم يمكن ملاحظة التدرج البنّاء في المقصد والغاية من فعل التأسيس، ويتابع القول: وفي نظرتنا أنه لا شيء مطلقاً يمكن أن يعطل هذه القوة وهذه الموهبة الأساسية للإنسان، العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والأساسي، هو موهبة الإنسان العليا. للمزيد الجيل الجديد 2 ص 127. فدعونا نفسح المجال لأنفسنا وننير ما غفلنا عن وجوده في ذاتنا ولا نسرف في الحلم، بالنظر لمن أنار عقولنا بشكل طوطمي أو خارج المألوف الطبيعي للبشر فهو نفسه القائل: لم آتيكم بالخوارق بل بالحقيقة التي هي أنتم – وفي الآثار الكاملة الجزء الثاني يكون أكثر ملامسة للحقيقة التي سعى إليها وعمل لها: «وما لا شك به عندي فيه أنّ عظمة الحزب السوري القومي التي لا عظمة بعدها هي في إيجاد الوجدان القومي وإظهار شخصية أمة عظيمة كانت مهملة وإيجاد أسس نهضة تحقق وصول الأمة إلى مرتبة الحياة المثلى اللائقة» للمزيد ص 242.

التأسيس حركة نهوض

لم يكن فعل تأسيس الحركة القومية الاجتماعية ناجم عن حركة استياء خصوصية أو لحل مشكل عارض أو ناجم عن وضع البلاد التي أجبرت على الخضوع للانتداب من دون وجه حق بل «إنها حركة إنشاء وبناء قضيتها وهي قضية حياة المتحد الاجتماعي، حياة الأمة كلها ومصيرها» للمزيد آثار ج 16 ص 101. من هنا يمكن ملاحظة أنه فعل إرادة وتصميم ناتجين عن بحث ودراسة نذر نفسه لهما شاب في مقتبل العمر وجد على أرض الواقع عوائق «ومشاكل نفسية واجتماعية وسياسية تمنع الأمة السورية من السير إلى عزها وخيرها « الآثار الكاملة ج 16 ص 106. ففي ذلك الوقت برزت عقائد مزيفة حاولت استلاب أفئدة الناس وإلهائهم لكي ينشغلوا عن القضية المجتمعية الأساس التي تعني وجدوهم وحقهم في الحياة و» تلك القضايا الفاسدة أرزحت الشعب بإقصاء الحاكمين عن الحكم ليحل محلهم حكام آخرون يقومون على أساس القضايا الفاسدة المشار إليها وأشبه شيء إليها معالجة الحمى بقشور البطيخ» وليؤكد على الحقيقة السورية في الخلق والإبداع قال «إنّ التقليد الزائف لا يسير بالشعب إلا إلى الضلال والتهوّر. لا يمكن أن تعوّض القضايا الزائفة الأمة عن قضيتها الأصلية. إنّ السعادين إذا قلدوا البشر لن يصيروا بشراً» للمزيد آثار ج 16 ص 105. لذا كان لا بدّ أن تجد المبادئ القومية الاجتماعية طريقها إلى عقول الناس وأفئدتهم لأنها وحدها الطريق لإنقاذ الأمة السورية.

ولذا أفضل من تحدث عن الحزب مُنشئه «تأسست الحركة القومية الاجتماعية على مبادئ الوجدان القومي والعدل الاجتماعي في النظرة المدرحية إلى الحياة والكون والفن… وإنّ أسس الحياة القومية الاجتماعية الجديدة هي أسس النهوض بالشعب وبعمران البلاد» للمزيد ج 16 لائحة العقاقير ص 77.

نحن والصخرة…

لم توجد قضية قومية صحيحة لسورية حتى كان نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي ولم يدرك العالم أنّ لسورية قضية قومية اجتماعية حتى كانت محاكمة الحزب التاريخية في الثالث والعشرين من كانون الثاني/ يناير سنة 1936.. كانت أشكال الناس المتجمهرين، حسب روحيتهم، كثيرة. جاؤوا ليحضروا مشهداً في غرابته لذة. وبعضهم جاؤوا لينظروا إلى فئة من الأغرار تحاول القيام بأمور لا تعرف عواقبها الوخيمة عليها.. لتنال جزاء جهلها وغلطها.

وتابع لقد وضعتُ مبادئ الحزب ودعوتُ إلى تأسيس الحزب عليها. لوضع حدّ لفوضى العقائد القومية في المجتمع السوري وتوحيده في عقيدة تصبّ في مصلحته، وتصرُفه عن التخيّلات العقيمة والأوهام الاتكالية إلى التفكير العملي والعمل والنهوض بالذات، وتعويد النشء خصوصاً على ممارسة الحقوق والواجبات القومية والفضائل التي توحد المجتمع وترقيه في نظرياته وأنظمته، وقيادة النشء إلى النظام والتمرن على استخدام مواهبه في سبيل ترقية أمته وفي سبيل معرفة الواجبات العامة والإطلاع بالمسؤوليات..

إن المبادئ الأساسية، التي تشكل التعاليم الرئيسية للحزب، هي الشيء الثابت الراهن، الراسخ، وما بقية مواد القوانين إلا وسائل علمية قابلة للتغير، إني أسست الحزب لتمكين أبناء أمتي من ممارسة حقوقهم المدنية والسياسية المحرومين منها بحرية.. ولهذا إنّ نظام الحزب وتشكيلاته وقوانينه هي لضمان إعادة الحقوق القومية المسلوبة وضبط ممارستها في ما يؤول إلى الخير القومي العام، ولمنع مفاسد الفوضى والخلو من الشعور بالمسؤولية ولصيانة تدابير الحزب وإجراءاته من الإفشاء والشيوع. ثم يتابع الزعيم: قد يقال إن الأمة تحيا في ظلال حريتها وإنما تمارس حقوق سيادتها بواسطة مجالسها النيابية. وأجدني مضطراً للتصريح في هذا الصدد إن السيادة الفعلية وحقوق ممارستها هي في الشعب دائماً. فإذا أقيمت حواجز تمنع الشعب من ممارسة حقوقه كان واجباً عليه أن يبتكر أسلوباً يتغلب به على هذه الصعوبة. وهذا هو ما فعلناه بإنشاء الحزب.. أن مبادئنا تعميرية بحت وغرضنا جعل بنائنا الاجتماعي متيناً وجميلاً، وأن الحزب نظامي بحت يعمل بجميع الوسائل المبتكرة لتمكين أبناء الأمة السورية من ممارسة الحقوق المدنية والقومية في ظروف حرجة.. للمزيد ج2 من ص 187 إلى ص 199.

نظرة في العمق… الدستور

بعد تثبيت اسم هذه النهضة الذي راعى فيه المؤسس التأكيد على الهوية السورية وعلى مذهبه العقائدي القومي الاجتماعي أدرجه في الدستور مادة أولى، وحظيت المادة الثانية من الدستور على شرف احتضان غاية الحزب وكان القرار والاستقرار، المبادئ الأساسية الثمانية من نصيب المادة الثالثة بينما حوت الرابعة المبادئ الإصلاحية الخمسة، أما شعار الحزب وعلمه الذي يرمز إلى تفاعل المادة والروح وإلى الحياة والبقاء والخلود برؤوس الزوبعة الحمراء لأربعة مثل عليا هي: الحرية، الواجب، النظام، والقوة، استقر في المادة الخامسة.

أما الباب الثاني نظام الحزب أكدت المادة السادسة: القوميون الاجتماعيون هم مصدر السلطات وفق أحكام الدستور.

وعيّنت المادة السابعة: نظام الحزب مركزي تسلسلي.

وبهذا الترتيب يمكن ملاحظة افتقاد معظم الأحزاب الموجودة لهذه الدقة في الإعداد والإنشاء بينما يسجل للحزب غاية وطنية سامية المعالم والأهداف، يتلوها مبادئ أساسية وإصلاحية واضحة المعالم، لبناء الأمة ونظام هرمي متماسك بديع التكوين يفسح المجال واسعاً للعمل كلّ في نطاق مسؤوليته ويحفظ ممارسة حقوق العضوية كاملة ويرعى الأعضاء أثناء أداء واجبهم، بل أكثر، المادة الحادية عشر: لكلّ عضو في الحزب حق:

1 إبداء الرأي في الاجتماعات النظامية العامة والخاصة في كلّ ما يتعلق بغرض الاجتماع وحين يُباح الكلام.

2 إبداء الرأي لأيّ مرجع أعلى في كلّ ما يتعلق بشؤون الحزب الإدارية… رسمياً بواسطة التسلسل.

3 إبداء الرأي في خطط الحزب السياسية والاقتصادية للمراجع والهيئات المختصة مباشرة.

مما تقدّم يمكن ملاحظة الدقة التي أتاحها النظام للعضو في إبداء الرأي بهذه الركائز أو الدعائم الأربعة وسعة مروحتها التي لم توفرها القوانين الموروثة من السلطنة العثمانية أو الانتداب الفرنسي ومن بعدهما الدولة للمواطن. ولتأتي المادة الثانية عشرة: أعضاء الحزب من مسؤولين ورفقاء متساوون أمام القانون في الحقوق والواجبات ولا يحاكم أو يعاقب أي منهم إلا بموجب القانون.

ولذلك أمتلك سعاده الجرأة ليقول «إن إنشاء المؤسسات ووضع التشريع هو أعظم أعمالي بعد تأسيس النهضة القومية.. لأنّ المؤسسات هي التي تحفظ وحدة الاتجاه ووحدة العمل وهي الضامن الوحيد للاستمرار» خطاب أول آذار 1938 وكان الكافل الضامن لتطبيقه بشكل أخلاقي بعيداً عن أية نزعات فردية أو فئوية قوله: كلّ نظام يحتاج إلى الأخلاق، بل إنّ الأخلاق في صميم كلّ نظام يمكن أن يكتب له أن يبقى. المحاضرات العشر ص 180.

من خلال ما تقدّم من نصوص يتضح لنا جوهر الالتزام وحدوده وآلية تطبيقه العملي داخل الحزب وفي الحياة العامة.

يوم أبصرتُ نور الحقيقة

كان يوماً مشرقاً في بيروت من عام 1969 أكان كذلك فعلاً! أو لأنها المرة الأولى التي كنت أحظى بها في السماع عن سعاده، والأغلب كذلك، سألت جدي وأنا أدخل الغرفة بدون مقدمات، مين هو سعاده؟ انتفض في مكانه وكرت منه سبحة من الأسئلة وهو يعدل من وضعية جلوسه قبل أن يحصل مني على أي إجابة! ليش عم تسأل؟ مين خبرك عن سعاده؟ أمك؟ خالك؟ آه هَيْ ستك؟ ستك ما في غيرها… جدي أنتظر قليلاً.. أبرزت يدي من خلف ظهري وبها جريدة قديمة وأشرت إلى عنوان تصدّر الصفحة الأولى مكتوب بخط أحمر عريض سعاده قال: شكراً لجلاديه، ومن يومها أصبح صندوق خالي أهم اكتشافاتي في قبو جدي بل كنزي الخاص أعود إليه كلما سنحت لي الفرصة لزيارتهم، وما زلت أذكر عبارة سعاده الشهيرة عندما خاطب الأجيال التي لم تولد بعد، واعتبرت حينها وما زلت إلى الآن أني أحد الذين قصدهم، نعم هذا الرائع خاطبني، وكان من اللائق والطبيعي أن ألبّي النداء لبيك يا زعيمي. استغرق الأمر سنتين أو يزيد حتى نلت شرف الانتماء على يد قامة حزبية اعتمد على تسميتهم الرعيل الأول، وبعد اتباع عدد من الدورات الإذاعية والإدارية والتدريبية المطلوبة كان لي الشرف أن أعمل مع بعضهم ثقافياً، وآخرين تحت قيادتهم في أحلك الظروف وأدقها، وشملني التقدير والإنصاف عندما مُنحت وسام السلام في لبنان الصادر بالقانون رقم 57 عن القائد العام للجيش والقوات المسلحة في 17 12 1977، وبالعزم والإرادة المؤيدة بصحة العقيدة أسّست منشأة عملت على إنجاحها طوال أربعين عاماً، أذكر ذلك الآن على أبواب أفول السنة الرابعة والأربعين من الانتماء لأشير إلى أهمية التصالح مع النفس ونكران الذات لصالح المجموع، كما أرساها سعاده: المسؤولية تكليف وليست تشريفاً، وشهادة حق للأجيال الصاعدة إنّ العقيدة السورية القومية الاجتماعية فكراً تعليمياً ونهجاً خلاقاً أساس بنيانها الأخلاق التي ترتكز على الوضوح والجلاء واليقين، وهذا بدوره يوصل لتطابق في الحياة والعمل وتوحد بين النظرية والتطبيق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى