تحرير حلب وأسباب الانتصار السريع فيها

العميد د. أمين محمد حطيط

قد يكون من السابق لأوانه البدء في تحليل معركة تطهير حلب من الإرهاب وتحقيق أهداف الهجوم التطهيري الذي نفّذه الجيش العربي السوري وحلفاؤه ضدّ حشد من المسلحين تحصّنوا في مساحة من المناطق المبنية والمأهولة بالسكان، بحيث تجاوز عددهم الـ 12 ألف مسلح انتشروا في أحياء يقطنها أصلاً 600 ألف مواطن سوري بقي منهم أثناء المعركة 200 ألف ، ينتشرون على مساحة تصل الى 75 كلم2.

كانت حلب في أحيائها الشرقية التي وضع المسلحون اليد عليها مدعومين ومحتَضنين من الحلف الأطلسي بقيادة أميركية ومسانَدين إسناداً جعلهم رقماً رئيساً في المعادلة السورية كلها، باعتبار حلب العاصمة الاقتصادية هي مركز الثقل النوعي الاستراتيجي السوري بعد دمشق العاصمة السياسية، لهذا كان العدوان يعوّل عليها لأكثر من سبب منذ أن وضعت اليد عليها في العام 2012، حيث انطلق العدوان يومها مزهوّاً بانتصاره مطالباً بتنحّي الرئيس الأسد وتسليم السلطة كلياً الى المجموعات المسلحة التي تقودها منظومة دولية إقليمية بقيادة أميركا، وبالتالي كان سقوط بعض حلب بيد الإرهاب بمثابة إطلاق الصفارة للإعلان عن انتصار العدوان في تحقيق أهدافه، ولو لم تكن القيادة السورية تمتلك الإرادة والأعصاب الفولاذية الاستثنائية والثقة بالنفس وبالحق وبالحلفاء، لكانت بعد حلب اعترفت بانتصار العدوان وسلّمته البلاد، لكن هذا لم يحصل لأنّ في سورية قائداً استثنائياً فذاً وجيشاً عقائدياً مميّزاً وشعباً متمسكاً بأرضه وحلفاء في محور المقاومة ندر وجود حالة تحالفية تشبههم، ولذلك لم يقطف العدوان ثمار احتلاله الإرهابي لحلب في العام 2012.

ولأنّ لحلب هذه الأهمية فقد بقيت في رأس اهتمامات القيادة السورية منذ تاريخ سقوط بعضها بيد الإرهاب، وعملت القيادة منذ ذلك التاريخ بسياسة تحديد الخسائر وحصر الانهيار في المدينة ما أمكن، وتمكّنت في الأشهر الستة التي تلت دخول الإرهابيين من بناء دفاعات محكمة في القسم الغربي من المدينة مستندة في ذلك إلى مجموعة المدارس والمراكز والقواعد العسكرية القائمة في المنطقة أصلاً، ونجح الجيش العربي السوري في مهمته تلك وتمكّن من تحصين المواقع العسكرية بمعظمها وأقام فيها الحاميات المحلية ثم نظّم شبكة عسكرية نارية وميدانية للإسناد المتبادل في ما بينها ما أدّى الى منع الجماعات المسلحة من التقدّم إلى غربي المدينة وأدّى الى رسم خط تماس قسم المدينة بنسبة 40 بيد إرهابيين و60 تحت سيطرة الدولة وكانت هذه النتيجة مقبولة الى حدّ ما، لكنها فرضت على الجيش العربي السوري أعباء كبيرة لجهة الدفاع عن هذا القسم أولاً ومنع محاصرته وتأمين إمداده الدائم بحاجيات السكان المعيشية فضلاً عن الكهرباء والماء التي قطعها المسلحون عن غربي المدينة، ما اضطر أهلها الى ابتكار قاعدة استعمال الكمية الواحدة للماء 3 استعمالات متدرّجة حسب الأهمية.

بقي الوضع في حلب على حاله تقريباً 3 سنوات مع بعض الخروق والكرّ والفرّ، ولكنه تفاقم في السنة الأخيرة عندما وسّع المسلحون سيطرتهم على الريف الحلبي كله تقريباً وصولاً الى إدلب وريف حماة الشمالي، فاضطر الجيش العربي السوري الى القيام بعمليات عسكرية مكلفة ومؤلمة للإبقاء على ارتباط ما بغرب حلب، ونجح الجيش في ذلك مع كلفة لا بأس بها.

لكن عندما تعدّل ميزان القوى بين معسكر العدوان على سورية ومعسكر الدفاع عنها، بانضمام روسيا عسكرياً الى المعسكر المدافع، كان الشمال السوري في سلّم أولويات هذا المعسكر، فوُضعت الخطط العسكرية المحكمة للعمل على جبهة حلب وجبهة ريف اللاذقية الشمالي، حيث تمكّنت سورية وحلفاؤها وفي أقلّ من أربعة أشهر من قلب المشهد الميداني رأساً على عقب وطهّرت معظم ريف اللاذقية غرباً وطهرت كويرس ومطارها شرقاً وفكّت الحصار عن نبّل والزهراء شمالاً ورسمت خريطة عسكرية تنبئ بأنّ ساعة تحرير حلب قد دنت.

عندها شعرت أميركا بجدية سورية لتحرير حلب وقدرتها على إنجاز المهمة، فبدأت بالمناورات التي تمنع تحقيق ذلك، وكانت أول مناورة – خدعة في 27 شباط 2016 حيث توصّلت مع روسيا إلى هدنة في حلب ومنطقتها بشكل خاص وسورية بشكل عام، والاتفاق على إطلاق العملية السياسية التفاوضية في جنيف، لكن سرعان ما تبيّن أنّ أميركا كانت تريد من الهدنة منع تحرير حلب وكسب الوقت لتنظيم الجماعات الإرهابية وزجّها في معركة السيطرة على كامل حلب وكامل ريفها. وبالفعل ما إن انطلقت أعمال جنيف السوري – السوري نظرياً حتى سارعت الأدوات الأميركية في اليوم التالي إلى تعليق المشاركة وتفجير الجبهات خاصة في حلب ومنطقتها.

لقد حقق الإرهابيون في موجة الهجوم الأولى جنوب حلب إنجازات لا بأس بها من خان طومان الى العيس ودفع المدافعون عن المنطقة خاصة القوات الحليفة للجيش العربي السوري ثمناً باهظاً للبقاء فيها حتى إفشال أهداف الهجوم. وتكرّرت العملية بعد أقلّ من شهر ما حدا بالقيادة السورية إلى إعادة تقدير الموقف ووضع خطة تحرير حلب، مهما كانت الأثمان والمهل. وبالفعل وانطلاقاً من حزيران 2016 اتخذ القرار باستئناف الأعمال العسكرية التي تؤول الى تنفيذ المهمة، ووضعت الخطة العسكرية الملائمة وجُزّئت إلى مراحل ثلاث: الأولى تهيئة القوات اللازمة وتحشيدها وتنظيمها وإعدادها للمهمة، الثانية تهيئة البيئة العملانية وتسوية خطوط التماس مع حصار الأحياء الشرقية وعزلها والثالثة مرحلة التطهير الفعلي للأحياء الشرقية.

لقد أنجزت سورية وحلفاؤها المرحلتين الأولى والثانية من الخطة بنجاح باهر وصولاً إلى فرض حصار محكم على المسلحين في الأحياء الشرقية وقطع طرق إمدادهم الرئيسة والثانوية وعزلهم عن تركيا، ولم تنفع محاولتا هجوم وحشي اعتمدت فيهما استراتيجية الموجات البشرية المتعاقبة، كما لم تنفع كلّ المناورات الاحتيالية الأميركية في فك الحصار أو حمل سورية على التراجع عن فكرة تحرير كامل حلب. ومضت سورية وحلفاؤها في تنفيذ المرحلة الثالثة من الخطة. وهنا كان الإبداع الميداني الذي أدّى إلى تحرير حلب وإنجاز المهمة في ثلاثة أسابيع فقط في حين كانت التقديرات الأولية تجمع على القول بأنّ المهمة لا يمكن أن تنجز بأقلّ من ثلاثة أشهر نظراً لتعقيدات الميدان وحجم المسلحين واتخاذهم 200 ألف مدني سوري دروعاً بشرية وعلمهم بحرص الحكومة السورية على الحجر والبشر معاً.

وفي بحث عن الأسباب التي أدّت الى هذه النتائج الرائعة، فإننا نرى أنّ تحرير حلب كان نتيجة خطة وضعت منذ ستة أشهر وجرى العمل على تنفيذها بدقة وصبر وتأنٍّ واحتراف، وتولى تنفيذها الجيش العربي السوري مع الحلفاء بكفاءة عالية، وكان تأثيرها على الأرض ونفوس المسلحين مذهلاً، وهنا نسجل على الصعيد السوري والحلفاء ما يلي:

1 ـ النجاح في العملية الاستخبارية العميقة التي مكّنت القيادة العسكرية والميدانية من رسم صورة دقيقة للواقع الميداني.

2 ـ النجاح في التخطيط وإدارة الحرب النفسية ضدّ المسلحين للتخفيف من أثر وجود المدنيين، وكذلك زعزعة العلاقة بين المسلحين. ونسجل أهمية سياسة منح الهدنات القصيرة من جانب واحد ثم صدور العفو الرئاسي ثم فتح الممرات الآمنة وتلقي المدنيين الخارجين من الأحياء المحاصرة… كلّ ذلك ساعم في صنع بيئة إيجابية لصالح القوى المقتحمة.

3 ـ النجاح في التمهيد الناري المركّز والمستدام واستهداف القواعد النارية للمسلحين وإصابتها بدقة بالغة، ما أدّى الى إحداث مفاعيل نفسية وميدانية حلّت سلبياً بالمسلحين، فأنتجت خوفاً ورعباً لديهم وحرمتهم من نار كانوا يعوّلون عليها.

4 ـ النجاح في عملية الاختراق السريع، وهنا سيتوقف الباحثون العسكريون عند ذاك القرار – المجازفة الذي اتخذ لاختراق المنطقة في الوسط وقطعها إلى قسمين شمالي وجنوبي. لقد كان في دخول القوى المقتحمة مساكن هنانو في الوسط مجازفة كبرى أدّى نجاحها الى حسم المعركة في الأيام الثلاثة الأولى لانطلاقها.

5 ـ الإسراع في استثمار النجاح الأوّلي ومتابعة زخم الهجوم لا بل تزخيم الهجوم وعدم إعطاء الخصم فرصة التقاط الأنفاس، ثم اعتماد سياسة المحاور المتعدّدة في الآن نفسه من دون أن تفسح في المجال أمام المسلحين اللجوء الى الإسناد المتبادل بين المحاور ونقل القوى، حيث فرضت على كلّ جماعة العمل بمقولة «لكلّ شأن يغنيه» وخطر يمنعه عن التفكير بسواه.

أما على صعيد الجماعات المسلحة وتأثيرها على مسار المعركة فنكتفي الآن بذكر أسباب ثلاثة رئيسية أدّت الى هزيمتها:

ـ أولها وهن القيادة والسيطرة والتشتّت في القيادة الأمر الذي لم تستطع الخروج منه رغم إنشائها بعد الاختراق الأول لمراكزها جيش حلب بعد أن فات الأوان. ومع هذا الوهن لم ينفع ما كدّس من سلاح.

ـ الثاني ثقتها بالقيادة الخارجية التي كانت تعدها بأنها ستمنع الهجوم السوري مهما كان الأمر، فصدمت بحصوله.

ـ والثالث عدم قدرتها على احتواء موجة الهجوم الأولى، ما أدّى الى انهيار مزودج، انهيار معنوي لم يعالج وانهيار ميداني لم تسدّ الثغرات فيه.

وبالنتيجة ارتفعت حلب حرة مطهّرة وسقط فيها الإرهاب وأهداف العدوان وفتحت الطريق للبحث الجدي في انتهاء الأزمة السورية.

أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى