القائد الشهيد سمير القنطار رسم بدمائه خارطة المقاومة
عباس الجمعة
يبدو لي أن شهر كانون الأول ليس مثل كلّ أشهر السنة. فهو أكثر منها قسوة رغم أن باقي أشهر السنة لم ترحمنا. ففي كانون الأول من عام 2015 كان اغتيال فارس المقاومة العربية القائد الشهيد سمير القنطار، الذي غادرنا من دون أن يقول لأحد منّا وداعاً. ونحن بالتالي لن نقول له وداعاً، فشهداء القضايا الكبرى لا يسمحون لنا بوداعهم، لأنهم يسكنون فينا، ويشربون معنا قهوة الصباح، ويأكلون من خبزنا، ونتعلّم من تجاربهم، وننهل من أفكارهم، ونتسلّح بمزاياهم في سفرنا الطويل.
ومن هذا الموقع، نقول إن سنديانة فلسطين ولبنان والجولان، الشهيد سمير القنطار، مثّل باستشهاده «عنوان القضية القومية» غيفارا، بعد أن عبر حقول الألغام المنثورة بكثافة على الدرب، فبنى الجسور المتينة بين المقاومة، وبقي صامداً وشامخاً حتى تُحكى حكايته للأجيال، لتتابع بناء مسيرة النضال التي بدأها منذ أن انتمى شبلاً إلى الثورة الفلسطينية، وتحديداً إلى جبهة التحرير الفلسطينية التي أحبّها وأحبّ قادتها العِظام الأمناء العامّين، طلعت يعقوب وأبو العباس وأبو أحمد حلب. وأحبّ القائد العسكري فيها سعيد اليوسف، وأمضى بعد عملية نهاريا البطولية ثلاثين سنة في مواجهة السجّان الصهيوني، ليطلَق سراحه بعملية «الوعد الصادق»، حين وعد سيد المقاومة السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله، لتكون فرحة القائد سمير القنطار الكبيرة.
ولم يمضِ شهر حتى كان في موقع المقاومة يحمل أمانة الشهداء، وليتابع مسيرة شهداء المقاومة في لبنان، وفي مقدّمهم الشهيد عماد مغنيّة.
سمير القنطار صاحب الإرادة، والقامة الشامخة، والعطاء المتدفّق كزيتون فلسطين. كان صاحب إرادة متفائلة دائماً رغم قسوة الواقع، فأراد أن يكون على تخوم أرض فلسطين من خلال جبهة الجولان السوري. فشكّلت جرأته منارة راسخة في الممارسة النضالية، ووقف ضدّ الاحتلال والعدوان ومع شعب فلسطين، ووقف ضدّ الاستبدادين الإقليمي والدولي، وأثبت أنّ الفعل ليس انفعالاً بل كان فاتحة لمقاومة مستمرّة، حيث مثّل الإرادة الفاعلة في المقاومة، بأفكاره ومواقفه، ولهذا نقول للشهيد القائد سمير القنطار: لم تفقدك يوماً السجالات الفكرية والسياسية والعسكرية، حيث تركت إرثاً نضالياً، لإخوانك ورفاقك على متابعة المسيرة بقوّة وثبات.
لقد قلتَ أيها الشهيد القائد: «خرجتُ من فلسطين كي أعود إلى فلسطين»، عبارة تلخّص بكلّ صدق الوجهة الكفاحية في مواجهة العدوّ الصهيوني، بعد أن أفنيت زهرة شبابك، وازداد إيمانك بالقضية، والاستمرار في النضال، لتتولّى المقاومة في الجولان السوري المحتلّ قبل أن تطالك يد الغدر الصهيونيّ.
سمير القنطار تلك الكلمة العظيمة التي لم يحملها الشهيد البطل اسماً فقط، بل جسّدها بروعة في واقع النضال لدرجة أنك لو بحثت له عن اسم فلن تجد غير كلمة سمير لتطلقها عليه. ففي الحياة الاجتماعية كان صدره وسلوكه مفعمين بالدفء والحنان وروح التعاون. وفي الجانب النضاليّ جسّد أسطورة رائعة من الانتماء والتواصل النضاليّ منذ نعومة أظفاره. فمنذ الرابعة عشرة من عمره وحتى يوم استشهاده وشعار التواصل النضاليّ لا يفارقه قولاً وعملاً. في الأسْر كما بعد التحرّر كان دائماً ممتشقاً سلاح النضال حتى يطبّق شعاره الشهير «لن أكون عبداً للمرحلة لأنّني لن أعيش سوى مرّة واحدة وسوف أعيشها بشرف».
وأمام كلّ ذلك، أنحني أمام هامة سمير القنطار القائد المقدام والشجاع الذي كان مقتنعاً تماماً بالشعار الخالد الذي رفعه الرئيس الراحل عبد الناصر «ما أُخذ بالقوّة لا يُستردّ إلّا بالقوة»، وحتى أكمل دائرة الحقيقة أقول: ما كان لسمير أن يملك هذه العَظمة ويستحقّ هذا التقدير لو لم ينشأ في كنف أسرة ومجتمع ساعدا في تكوين شخصيته، واكتسب منهما عناصرها ومقوماتها. وفي المجتمع العائلي الذي تخطّى الأسرة سمات تتقاطع مع سِمات أسرته، وزوجته إعلامية صلبة ذكية، شاطرته الحياة وودّعته وهي تعتصر الألم، على رغم أن مدّة زواجهما لم تتعدّ ثلاث سنوات أو يزيد عنها بقليل.
ونحن نقف اليوم أمام الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد القائد سمير القنطار، نجد أن المخطّطات التي بدأت منذ «وعد بلفور» باتت تهدّد التاريخ والجغرافيا ووحدة الأمة، والنيل من استقلال الدول العربية وسيادتها، عدا عن سرقة ثرواتها ونهبها. وما حالة التطبيع والهوان للنظام الرسمي العربي ومواقف الجامعة العربية إلا خير دليل. هو انتصار حلب الذي يعتبر واحداً من أهمّ الانتصارات التي عرفتها بلدان عدّة بعد الحرب العالمية الثانية، بالأسلحة التي استعملت في المعركة، وبالبطولات التي أظهرها الجيش العربي السوري وحلفاؤه، يمكن الإشارة إلى أهمها، ونعتقد أنها ستكون موضوع دراسة على كل المستويات وفي أكثر بلدان العالم، وهذا يستدعي من كافة القوى العربية رفع مستوى فاعليتها وتنسيقها لإعادة الاعتبار والبعد القومي إلى القضية الفلسطينية كقضية مركزية للأمة، ولرفض كافة أشكال التطبيع مع كيان الاحتلال، وتشديد الحصار عليه وملاحقة جرائمه في المحافل الدولية.
وفي ظلّ هذه الظروف، نؤكد أن مقاومة النهج الإمبريالي المتسلّط ليست أمراً مستحيلاً، إذا تحققت الإرادة السياسية وتوفّرت لها التحالفات الملائمة التي تخدم مصلحة الشعوب في التحرير والتقدّم، وهذا يتطلّب مزيد من الدعم والوقوف إلى جانب نضال الشعب الفلسطينيّ ومقاومته المشروعة.
ختاماً، لا بدّ من القول: طوبى للمناضلين والقادة الذين تقدّموا الصفوف في التضحية، فاعطوا نموذجاً يحتذى، لشعبنا وأمتنا ومقاومتنا. ونحن نعاهد القائد الشهيد سمير القنطار بأننا سنبقى أوفياء لإرثه النضاليّ المتقدّم في مسيرة الكفاح والنضال والمقاومة. وإن سمير باستشهاده وهو يقبض على جمر النضال والتضحية، كان شعاره تحرير الأرض والإنسان.
كاتب سياسيّ فلسطينيّ