الوقوف عند منعطف ما!

أحمد علي هلال

بصرف النظر عن تأويل العلاقة الأثيرة/ المركّبة بين الرئيس الكوبيّ الراحل فيديل كاسترو وبين الروائيّ الراحل غابرييل غارسيا ماركيز، ومحاولة استنطاق إحدى رواياته «ليس للجنرال من يكاتبه»، فإننا نقف عند قطبين تجاورا في اللغة والحياة. ولعلّها صداقة خرجت عن حدودها الضيّقة، لتكون بمعناها الإنساني العميق منذ أن التقيا مصادفةً عام 1948، في مؤتمر لطلبة أميركا اللاتينية في كولومبيا، لتتطوّر العلاقة، من محادثات «مهمّة وشيّقة» إلى مواقف دالّة في توسّل «يوتيوبيا» تقول: «ليس بمقدور أحد أن يقرّر نيابة عن الآخرين طريقة موتهم وحيث تستطيع كلّ الأعراق التي كانت محكومة بمئة سنة من العزلة أن توفّر لنفسها في آخر المطاف، وإلى الأبد فرصة ثانية للعيش الكريم على سطح المعمورة».

ومن الجليّ الواضح أنّ ماركيز مبدع العوالم الواقعية السحرية كقيمة مضافة إلى الأدب وفنّ الرواية بالذات، كان يقف على مسافة كافية من الزعيم الراحل، تؤهّله للتأمّل والإقرار بذلك السحر الغامض لشخصية كاسترو ورمزيته في قلوب الكوبيين، إذ يصفه بالقول: «إيمانه بالكلمة وقدرته على الغواية يدفعانه إلى البحث عن المشكلات حيثما كانت، هيجانات الإلهام جزء لا يتجزّأ من أسلوبه الخاص». وبالطبع، فإن ماركيز الذي ألهمته أميركا اللاتينية ليذهب في روائع عرفتها الذاكرة الثقافية بمنمنماتها التاريخية، وحيوات شخوصها الذين أصبحوا أقرب إلى الأيقونات، وإلى تلك العوالم شديدة الجاذبية لقارة تمور بالتحوّلات والأفكار واستلهام الأساطير وبثّها على نحو في تمام التماهي ما بين الحلم والواقع، وذلك لم يمنع إقرار ماركيز بأن «خوسيه مارتي» هو الكاتب المفضّل لدى كاسترو، «والذي يحتلّ مكان الصدارة لديه، والذي مكّنته عبقريته من ضمّ مجموع أفكاره إلى السيل الجارف للثورة الماركسية». فكيف إذن رسم ماركيز صورة كاسترو كما عرفه، لا سيما رؤيته عن أميركا اللاتينية في المستقبل؟ إذ هي ذاتها رؤية «بوليفار ومارتي» ومجتمع كما يقول ـ ماركيز ـ متكامل ومستقبل بذاته قادر على تحريك مصير العالم. أكثر بلد يعرف عنه بعد كوبا هو الولايات المتحدة، فهو مطّلع بعمق على طباع أناسها، والمقاصد الثانوية لحكوماتها، وهذا ساعده في تفادي عاصفة الحصار الدائمة. لكن اللافت ما أثبته ماركيز عن طبيعة كاسترو السيكولوجية والاجتماعية الأكثر انفتاحاً ودلالة إذ يقول: «حين يتكلّم مع الناس في الشارع تأخذ المحادثة بُعداً بلاغياً، وصراحة مطلقة، تقوم على التطرّق إلى المصائب الحقيقية. ينادونه: فيديل، يحيطون به من دون خطر ويخاطبونه بصيغة المفرد، ويجادلونه ويناقضونه ويطالبونه عن طريق قناة نقل مباشر، حيث تُتداول الحقيقة بكلّ قوّتها. حينئذ يكتشف الإنسان غير المعهود الذي لا يحول بريقه الخاص دون الرؤية، هذا هو فيديل كاسترو الذي أعتقد أنني أعرفه: رجل ذو عادات صارمة وتطلّعات لا ترتوي أبداً، مع تلبية رسمية على الطراز القديم، وكلمات حذرة وعادات بسيطة عاجزة عن تكوين أيّ فكرة لا تكون فكرة عظيمة لقد أصغيت إليه خلال ساعات قليلة وهو يتحدّث حول حنينه إلى الحياة البسيطة، واستدعاء الأمور التي كان من الممكن القيام بها بطريقة مغايرة، لكسب مزيد من الوقت في الحياة. عندما رأيته منهكاً تحت وطأة حمل مصائر كثيرة وبعيدة، سألته ما هو أكثر ما تودّ القيام به في هذا العالم؟ فأجابني على الفور: أن أقف عند منعطف ما».

وعلى الأرجح أنّ رؤية ماركيز هذه في خصوصيتها، واستشرافها أفقاً ما كان كاسترو يتوق للوقوف إليه، هو أفق الخلاص الإنساني من ربقة الاستعمار والظلام والإرهاب نحو عالم أكثر عدالة وسعادة. تلك هي يوتوبيا شاقة ومثيرة، وتنطوي على مغامرة الحياة ذاتها في أن تكون… أو تكون.

كاتب فلسطينيّ سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى