انتفاضة الحجارة في ذكراها التاسعة والعشرين 3
رامز مصطفى
هي الأصالة المتمسكة بالهوية الوطنية الفلسطينية الكاسرة للرهان الذي عمل عليه الصهاينة وقادتهم منذ اغتصابهم لأرضنا الفلسطينية عام 1948، في دمج وصهر من تبقى من أهلنا هناك في مجتمع المستوطنين المستجلبين من كلّ أصقاع العالم، حيث لم يُدرك هؤلاء المراهنين أنّ رهانهم خاسر في تحييد أهلنا ونخبه وقواه عما يتعرّض له شقيقهم في الضفة والقطاع من قمع وتعسّف وإجرام يفوق التخيّل. فما أن بدأت الانتفاضة واندلعت حتى بادر الفلسطينيون في مناطق فلسطين العام 48 للإعلان صراحة أنهم جزء أصيل في هذه الانتفاضة، فخرجوا في تظاهرات وإضرابات تضامنية، وجمعوا المساعدات على مختلفها من غذائية وطبية ومالية. وتولى الفلسطينيون المشاركون في «الكنيست» تنظيم الحملات للدفاع عن الأسرى، بل لجأت قيادة الانتفاضة إلى مطابع في مدينة الناصرة والبلدات القريبة من أجل المساعدة في طباعة البيانات، بعدما شدّد الاحتلال قبضته على المطابع في الضفة الغربية.
لقد أثارت الانتفاضة الروح الوطنية لدى الجمهور الفلسطيني في مناطق الـ 48، وجعلتهم أكثر التصاقاً مع قضايا أهلهم المنتفضين، وهم وفي خطوة برهنت عن ارتباطهم بقضيتهم الفلسطينية أقدم نائبان فلسطينيان إلى الانسحاب من حزبين «إسرائيليين»، ولجأ الفلسطينيون إلى معاقبة الأحزاب «الإسرائيلية» في الانتخابات، كردّ على جرائم وسياسات حكومة الكيان «الإسرائيلي» ضدّ الفلسطينيين في الضفة والقطاع.
خسائر الانتفاضة
من المؤكد أن لا شيء من دون ثمن، هكذا هي طبيعة الأشياء، فكيف إذا كان الصراع محتدماً مع عدو يملك من شراسة القتل والإرهاب ما يفوق التقدير، أن لا سقف لديه لشهية الإجرام وارتكاب المجازر. لقد قدّرت الخسائر الفلسطينية خلال الانتفاضة التي امتدت من أواخر عام 1987 وحتى مطلع العام 1992 بـ:
ـ 1.162 شهيد، بينهم حوالي 241 طفلاً، نحو ما يقرب من 90 ألف جريح، يعاني نحو 40 منهم من إعاقات دائمة، 65 يعانون من شلل دماغي أو نصفي أو علوي أو شلل في أحد الأطراف بما في ذلك بتر أو قطع لأطراف هامة
نحو ما يقرب على ال 60.000 ألف معتقل من عموم المناطق الفلسطينية.
ـ تدمير 1.228 منزلاً.
ـ اقتلاع 140 ألف شجرة من المزارع الفلسطينية
الخسائر «الإسرائيلية».
وجه المقارنة بين ما تكبّده الفلسطينيون من خسائر في مقابل الخسائر «الإسرائيلية» خلال انتفاضة الحجارة، لا يستند إلى أية موضوعية. ومن الطبيعي في ظلّ أن لا ميزان للقوى بين الجانبين موجود أصلاً، وهو بيد الجانب «الإسرائيلي» فقط، من دون إغفال أو إسقاط أنّ الإرادة الفلسطينية المستندة إلى حقنا التاريخي الذي لا تراجع عنه، هي السلاح الأمضى الذي كان يمتلكه الفلسطينيون خلال الانتفاضة، التي استطاعت أن تلحق بالعدو خسائر فاقت البشرية التي بلغت 160 قتيلاً، واقتصادية بلغت في العام الأول فقط مليار دولار، إلى هزيمته أخلاقياً بعدما عرّته وفضحت جرائمه ونالت من سمعته وهيبته وادّعاءاته المزيفة على أنه الواحة الوحيدة في المنطقة التي تتحلى بالديمقراطية والمحافظة على حقوق الإنسان. وهذا ما دفع مجلس الأمن الدولي إلى إصدار قرار حمل الرقم 605 ، شجب فيه السياسات والممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، ومطالباً «إسرائيل» التي تمثل السلطة القائمة بالاحتلال أن تتقيّد فوراً بـ اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب.
كان الكيان في أضعف حالاته في مواجهة الانتفاضة، وهذا ما عبّر عنه المؤرخ زئيف شيف في كتابه انتفاضة : «إنّ الفلسطينيين فاجأوا إسرائيل بفتحهم جبهة جديدة ضدّها، عنف مدني شعبي ولم يكن الجيش الإسرائيلي على استعداد لذلك، فلم تكن لديه التجهيزات الملائمة لمواجهة هذه الجبهة، وقد انكشفت إسرائيل بضعفها بغتة في الخارج ولسكانها على حدّ سواء. وكانت المفاجأة في شمول الانتفاضة لجميع فئات السكان شباباً وشيباً، نساء وأولاداً ورجالاً قرويين، ومدنيين، متدينين، وعلمانيين، وهذه المفاجأة كانت أعنف من مفاجأتها بحرب يوم الغفران حرب تشرين الأول/ أكتوبر العام 1973 ، فإسرائيل لم تستطع ملاحظة ما يجري داخل بيتها، وفي غرفة نومها».
نتائج الانتفاضة
مع تسارع الأحداث في المنطقة وتحديداً احتلال الكويت عام 1990 من قبل نظام صدام حسين في العراق، وقيام الولايات المتحدة الأميركية برئاسة جورج بوش الأب بتشكيل تحالف دولي إقليمي من أجل تحرير الكويت عام 1991، وبالتالي انهيار الاتحاد السوفياتي في العام نفسه، قد أرخى بظلاله على الانتفاضة وفعالياتها التي بدأت تتراجع بالتزامن مع ارتفاع التوجه نحو عقد مؤتمر لـ«السلام» في مدريد تشارك فيه كلّ أطراف الصراع، وبرعاية أميركية ـ روسية. وتدحرج التطورات المتعلقة بذلك وصولاً إلى اتفاقات «أوسلو» عام 1993، الذي وقعته منظمة التحرير مع الكيان «الإسرائيلي»، متنازلة عن 78 بالمائة، وباعتراف مُذلّ بالكيان «الإسرائيلي» مقابل سلطة بائسة، ثبُت بعد ما يزيد على الـ 20 عام من عمر «أوسلو» أنها لم تحقق شيئاً للشعب الفلسطيني، بل المزيد من تبديد الحقوق والعناوين الوطنية. وبذلك وجهت الطعنة إلى ظهر الانتفاضة وتضحيات أبنائها، الذين قُدرّ لهذه الانتفاضة المجيدة وشعبها المناضل والمقاوم والمضحّي، قيادة تتمتع بأفق سياسي مُحصّن بمناعة وطنية كافية لكانت هذه الانتفاضة قد حققت الشيء الكثير من الحقوق والعناوين الوطنية ومن الأهداف التي انطلقت لأجلها الانتفاضة المباركة في الثامن كانون الأول.