لن نترك الوحش يقتل تاريخنا

1- –

لم يكن الوقت صبحاً… باكراً، رطباً، نديّاً…

لم يكن الوقت غروباً أو مساءً، ولا الليل مقمراً ولا كالح السّواد..

لم يكن المكان منصّة أو مسرحاً!!

ليس ثمة حشود متجمّعة على مدرّج، ولا أناس في الساحات؟؟

لم تر امرأة حبلى، أية امرأة حبلى ما؟!

ولم تُر داية عتيقة تحترف استقبال الجنين القادم إلى الحياة، ولم تتهامس نسوة الحارة، ولم تسمع زغرودة ما، أو تطلق رصاصة من بارودة ابتهاجاً؟!

لم يكن هنالك من غرفة طوارئ في مشفى ما، لا أطباء.. لا غرفة عمليات.. لا مقصّات.. لا مشارط..

بل لم يكن هنالك من حركة ما، أية حركة..!

فقط: رجلٌ وفكرة. رجل مفرد واحد فحسب قرّر أن يغيّر إحداثيات الوجود الذي ينتمي إليه، فاعتلى منصّة ذلك الوجود داخلاً في زمنه/ تاريخه، مبتدئاً بصياغة «فكرة» واحدة، استحالت إلى كائن/ واقع:

كان الرجل أنطون سعاده.

وكان الكائن/ الواقع: الحزب السوري القومي الاجتماعي.

لكن يحضرني هنا، أن أتساءل معكم حول مسألتين:

الأولى: هل أسّس سعاده في العام 1932 حزباً أم أطلق نهضة؟

وأتساءل مضيفاً: وأيّ فرق؟

يحيل هذا التساؤل، دون أدنى شكّ، إلى تلك العملية النقدية الاستثنائية في تاريخنا السياسي، التي أجراها سعاده بنفسه، بعد عودته من اغترابه القسري في الثاني من آذار 1947، والتي في خلالها أعاد صياغة العقيدة السورية القومية الاجتماعية على نحو شديد الوضوح، وقدّمها بكونها «نهضة» تعبّر عن «جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية» فنقلها من إطار كونها «نصاً سياسياً» أو «نصاً فلسفياً» كما فهمت إلى كونها «حركة» ليضعها على حامل الحزب.

سيجد سعاده نفسه مدفوعاً للتأكيد أنَّ هذا الحزب ليس سياسياً اعتيادياً كبقية الأحزاب، وأقول مضيفاً إنه ليس حزباً، وفق قاموس المفكر الفرنسي موريس دوفرجيه، ولا وفق أيّ تعريف أكاديمي ما منذ أن تمّ التأريخ لظهور الأحزاب السياسية منذ منتصف القرن التاسع عشر.

التساؤل الثاني يتعلق تحديداً بشخصية سعاده وماهيتها؟ فوفق عملية تأسيس الحزب وسياقها: هل نحن أمام نبيّ أو رسول ملهم سقط عليه الوحي، فقام للتوّ يبشّر ويكرز بما أُمر به؟

بقول واحد قاطع: لا.. لا.. لا. فنحن لسنا أمام شخصية دينية، أو شخصية تحمل أية طيوف أسطورية، وإن أغرى البعض ما يذهب إليه جيمس فريزر في كتابه «الغصن الذهبي» في تفسيره لنشوء الديانات ومشابهاتها مع طريقة سعاده.

نحن أمام شخصية تاريخية بكلّ ما للكلمة من معنى.

لم يعش سعاده ليلة السادس عشر من تشرين ثاني في العام 1932، تحت وطأة كوابيس ثقيلة… ضاغطة. لم يتعرّق جسده.. ولم يأته «ملاك الرب» ناقلاً له مشيئة الله، آمراً له بتنفيذها!! لا.. لا قاطعة.. استيقظ سعاده في يوم ما، في بيروت، بعد أن فكر في دمشق ولم يوفق، واكتملت لديه المعطيات التي مكنته من المباشرة في تأسيس حركته.. ثم قرّر أن يكون السادس عشر من تشرين الثاني، هو اليوم الأول في تاريخ هذه الحركة.

سعاده هو رجل رؤيوي حتماً.. ولكنه كذلك لشدّة ارتباطه بالواقع لا لعكس ذلك، فهو لا يتعاطى مع الأفلاك والنجوم ولا يقرأ الطوالع.

نقرأ كثيراً في هذه الأيام نصوصاً لسعاده حول المذهب الوهّابي، وحول السياسة التركية، ونرى في هذه النصوص راهنية فذّة، ذلك لأنّ سعاده صاغ رؤيته دائماً وفق منهج متكامل يعبّر عنه النظام الفكري للعقيدة السورية القومية الاجتماعية، فهو لا يمكن أن تتحوّل تركيا عنده، إذا تقرّبت منا، إلى «شقيقة» ومن ثم تصبح عدوّة إذا ما ابتعدت وأظهرت نواياها العثمانية…

عند سعاده: لا العدو إذا ما هادن يصبح شقيقاً.

ولا الصديق، حتى لو ظلّ صادقاً، يصبح شقيقاً.

وبكلّ الحالات، وخلال قرن مضى، بدا أنّ تحت قبعة أتاتورك المصنوعة في لندن، أو باريس، أو برلين.. يوجد دائماً «طربوش عثماني» جاهز لنصب المشانق وشحذ السيوف وإطلاق الرصاص…

بالمعنى العلمي، التجريبي، الاختباري، استغرقت عمليات التحضير لدى سعاده وقتاً طويلاً قارب أن يكون عقدين من الوقت.

يمكن القول، بمعنى ما، إن مناخ الحرب العالمية الأولى، ومجريات أحداثها وتأثيراتها على بلادنا.. إنّ هذا المناخ هو المؤثر التاريخي الواضح الذي دفع بسعاده إلى ابتداء تفكيره بذلك التساؤل الشهير: ما الذي جلب على شعبي هذا الويل؟

2- –

يتزامن احتفالنا هذا العام، مع مرور قرن كامل على اتفاقية سايكس- بيكو، التي صاغت واقع أمتنا ورسمت إطار وجودها المعاصر، والتي كانت من مكوّنات المناخ السياسي، الذي ساد الحرب العالمية الأولى ونتج عنها، والذي تحت وطأته بدأ سعاده رحلته النهضوية.

في هذا التزامن، ما يساعدنا على قراءة المشهد الراهن في أمتنا، ويساعدنا بالتأكيد على ملاحظة حجم حاجتنا لمنهج سعاده وفلسفته ونهضته.

مناخ الحرب العالمية الأولى، وما أفضى إليه رسّخ مبدأ عاماً يقول: إنّ مصير سورية يقرّر دائماً من قبل الإرادات الخارجية الغريبة. ووفق هذا المبدأ تمّ منح فلسطين للمشروع الصهيوني ليقيم دولته، وقسّمت سورية ووزّعت ووضعت تحت الانتدابين الفرنسي والانكليزي، فيما خسرت سورية التاريخية زنّارها العظيم من جبال البختياري في الشرق إلى جبال طوروس في الشمال إلى سيناء في الجنوب الغربي، إلى قوس الصحراء في الجنوب لصالح الكتل الجيو سياسية المجاورة والمحيطة بها.

أخذ هذا المبدأ مجراه، انطلاقاً من النظر إلى سورية باعتبارها «تركة» الرجل المريض/ الإمبراطورية العثمانية الآيلة نحو النهاية. و«التركة» تأخذ مفهوم «المشاع» عندما لا يكون للرجل المريض ذريّة ترثه… «التركة» هي أرض غير مملوكة، لا صاحب لها، مشاع… سائب.

بهذا المعنى: سايكس بيكو ليست سوى ارتسام جيو سياسياً على أرض مشاع، بالمصادفة، اسمها سورية؟!

الآن، كيف يساعدنا هذا المنهج في قراءة المشهد الراهن؟!

باختصار شديد: تمّ إنتاج الإرهاب وفق منظمات وتنظيمات متعدّدة ملائمة للبيئات المحلية، ومتوازنة في حجومها مع القوى الإقليمية والعالمية الراعية، وتمّ الدفع بهذه التنظيمات في وجه الدولة المركزية في العراق والشام، ثم تمّ اصطفاء «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام: داعش» لتنميطه وإنتاجه على شريط الإعلام كـ «عدو مطلق»، ليتمّ احتكار القضاء عليه عندما تقتضي اللحظة الاستراتيجية ذلك، بوكالة حصرية لجهات الرعاية والمنشأ.

بهذا المعنى، يصار إلى استعارة أحد أهمّ منهجيات مناخ الحرب العالمية الأولى، ألا وهو إعادة إنتاج «التركة المشاع» لإعادة تدوير الملكية فيها لصالح مشروع طائفي/ إتني لم يعد خافياً على أحد. حيث اتجه هذا المشروع نحو تحويل خريطة سايكس بيكو من خريطة سياسية إلى خريطة سيا طائفية إثنية، فيبدو المطلوب والمستهدف إنتاج دولة سنية وأخرى شيعية، وأخرى كردية… إلى جانب الدولة اليهودية… ولا بأس أن يظلّ الحريق المذهبي الطائفي الديني مشتعلاً… مستعراً.

3- –

منذ مائة عام بدأ التحالف ما بين الأصوليات الدينية اليهودية/ الصهيونية الإسلاموية/ الوهابية ومراكز الرأسمالية العالمية، فوقع العالم تحت وطأة قوة هذا التحالف الرهيب، غير أنّ الأحداث التي تجري في بلادنا، كشفت على نحو غير مسبوق الأنياب الفتّاكة للأصوليات المتوحشة وللرأسمالية المتوحشة في آن. وبلادنا وإنْ كانت تدفع غالياً، من دماء أبنائها، ومن عمران مدنها، ومن وحدة مجتمعها، في مواجهة هذا التحالف، إلا أنّ العالم برمته يبدو مهدّداً بهذا الظلام المأساوي الزاحف والمتمدّد.. نتيجة هذا التحالف الرهيب بين:

وحش رأسمالي لا يشبع،

ووحش ديني/ أصولي/ أيديولوجي لا يشبع…

البعض منّا، صادَقَ الوحش الأصولي بحجة الأخوة في الدين، والبعض الآخر منا، صادق الوحش الرأسمالي بحجة الاقتراب من جنة العلمانية والديمقراطية والحرية؟!

الوحش الأصولي التهم «بعضنا» إما بإخراجهم من السياق التاريخي لبلادهم وتحويلهم إلى وحوش هائمة، أو بتكفيرهم كمقدمة لالتهامهم في مأدبة جهنمية لا حدود لنهايتها.

الوحش الرأسمالي التهم «بعضنا الآخر» بإحالتهم من «ثوريين» إلى مرتزقة يتوهّمون العلمانية والديمقراطية والحرية، فيما هم في الواقع يحترفون تزييف الواقع وتضليل الرؤية وتبشيع الحقائق.

بالفم الملآن نقول: إنّ مشكلة التيارات العلمانية في بلادنا لم تكن فقط مع الوحش الأصولي، بل كانت أيضاً، وربما بالدرجة الأولى، مع الوحش الرأسمالي…

كانت دائماً في مواجهة مع هذا التحالف الأسطوري. فـ «الغرب الرأسمالي» لا يطيق شبيهه خارجه، هو عدو شبيهه إن كان خارج نطاقه/ عالمه. إنه يقبل العلماني الفرد في أرجائه، ولكنه يلتهم المجتمعات أو الجماعات العلمانية خارجه، ويسلّم مصيرها إلى صنوه الوحش الأصولي.

بهذا المعنى: إنّ الحرب الدائرة في سورية الآن، هي أعظم مواجهة تجري منذ مئة عام ما بين تحالف الوحش الرأسمالي والوحش الأصولي الإرهابي من جهة وقوى المقاومة الوجودية من جهة مقابلة، وليس مصير بلادنا مرتبطاً بنتيجة هذه المواجهة فحسب، بل إنّ مصير العالم برمّته سيكون رهناً على نتيجتها.

وبكلّ اعتزاز وفخر، الحزب السوري القومي الاجتماعي في قلب هذه المواجهة جنباً إلى جنب مع قوى المقاومة وجيوش الشام ولبنان والعراق.

وإذا كنّا نقول مع سعاده: إنّ تأسيس الحزب هو نقض لمبدأ تقرير مصير سورية من قبل الإرادات الخارجية، فإننا نقول اليوم: إنَّ الرد المباشر على مشروع إعادة تدوير ملكية سايكس بيكو هو مؤسس في وحدة قوى مقاومة هذا المشروع، ويجب تطويره وتقويته على التوازي مع إعادة بناء الإنسان المجتمع وفق الأسس التي تجلعه قادراً على حمل مشروع النهضة والانتصار بأفكارها وآفاقها.

4- –

إن ما جرى ويجري في سورية هو عار على العالم كلّه، من مشرق شمسه إلى مغربها..

عار على الإنسانية كلّها من ألفها إلى يائها…

عار على الأمم والمجتمعات التي تدّعي التمدّن والحضارة..

فيما أدّى هذا الانكشاف المأساوي إلى رؤيتها في قاع الإنسانية الضحل!

إنَّ ما جرى ويجري في سورية هو ذلّ لمعنى الإنسان والإنسانية،

انحطاط لمعنى الحضارة،

ظلام كالح يحدق بآفاق التاريخ.

في هذا الصراع المحتدم سيكون من العار علينا إنْ تركنا الوحش ينتصر.. لأنّ ذلك إنْ حصل، فإنّ أبجدية بيبلوس وأوغاريت ستسحق تحت ضربات حروف النصوص الفتاكة القاتلة…

وسيجرّ زينون الصيداوي من رقبته ويتمّ سحله ولو اختبأ في رواق أثينا الفلسفي…

وسيطرد مار أفرام السرياني مرة ثانية من نصيبين، وستصمت ترانيم الكنيسة وقيثاراتها إلى الأبد..

سيكون من العار علينا إنْ تركنا الوحش يواصل النغل في دمائنا..

لأنّ ذلك إنْ حصل فإنّ لوح حمورابي سيتمّ تحطيمه لينهار باب الحقوق الذي دخلت الإنسانية عبره إلى عالم القانون… وسيسخر الوحش من مدرسة بيروت للحقوق ليحيلها إلى مرتع لإنتاج فوضى القيم الهائجة…

ويتمّ تحطيم بوابة عشتار على مدخل بابل، ليقذف بنا مرة جديدة إلى أعماق المياه المالحة حيث تيامات الرهيبة… وتعود قصة الخلق إلى بداياتها!

سيكون من العار علينا إنْ تركنا الوحش ينكّل بتاريخنا، لأنّ ذلك إنْ حصل فإننا لن نتمكن من إنقاذ السهروردي، وسيعود الإفتاء القاتل إلى قطع رأسه مرة ثانية وفي المكان ذاته، في قلعة حلب…

لا معنى يا صلاح الدين أن تحرّر القدس وتقتل السهروردي في آن!

وسيتمّ إقفال فم إبن سينا لتكفيره لقوله في النفس:

هبطت إليك من المحل الأرفع

ورقاء ذات تعزز وتمنّع

محجوبة عن كلّ مقلّة عارف

وهي التي سفرت ولم تتبرقع

وسيتمّ العبث بقبر إبن عربي في دمشق، وسيتمّ حرق كتبه لإذكاء نار الحقد الرهيب..

سيكون من العار علينا إنْ تركنا الوحش يعبث بروحنا ويشلّع أنفاسنا..

لأنّ ذلك إنْ حصل فإنّ رأس يوحنا المعمدان سيقدّم مرة ثانية على طبق مذهّب كرمى لعيون حورية غاوية..

وستتمّ ملاحقة الحلّاج مرة ثانية ليصلب من جديد على ضفاف دجلة في بغداد… حيث نحيب كربلاء يطبق آفاق التاريخ..

أنتركهم يوغلون في روحنا، فيصلون إلى مارسيل خليفة.. ويحاصرون عبير نعمة.. وااهٍ.. تلك التي غنت للحلّاج مناجية الله:

يا نسيم الروح قولي للرشا

لم يزدني الورد إلّا عطشا

لي حبيب حبّه وسط الحشا

إن يشا يمشي على خدي مشا

روحه روحي وروحي روحه

إن يشا شئت وإن شئت يشا.

أنترك العار يلاحقنا مع أولادنا وأولادهم.. يدبّون على أمكنتنا الجميلة وزماننا الأثير ليصلوا إلى فيروز وزياد وأدونيس وسعدي يوسف وفايز خضور وأحمد حافظ وبدر شاكر السياب وجبران خليل جبران وإبراهيم جبر ومحمود درويش ونضال الأشقر وصباح فخري… إلى آخر عقل مبدع!

أنتركهم يقتلون ويسحلون قافلة الشمس؟!

أنترك هذا التاريخ كله، هذه الحضارة العظيمة كلّها لتتحوّل أمكنتنا إلى صحراء قاحلة لا آبارها النفطية تشبع نهم الوحش الرأسمالي.. ولا آبار حقدها تشبع نهم الوحش الديني/ الأصولي للموت والدمار..

لا.. لا.. أيها السّادة..

لا.. لا.. يا أهلي… أيها السوريون..

لن نترك أمكنتنا.. لن نترك زماننا.. لن نترك تاريخنا.. لن تغرب شمسنا أبداً طالما أنّ نسر زوبعة لا يزال يحلّق في آفاق المستقبل.. مقاتلاً خالداً في سبيل نور النهضة الوضّاء..

خسئوا.. ما زلنا هنا وسنبقى.. وستنتصر سورية وتحيا.

نص كلمة في الاحتفال الذي أقامته مديرية مونتريال المستقلة في عيد تأسيس الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى