انكشاف الوضع الداخلي التركي
د. هدى رزق
لم يأت انتصار حلب برداً وسلاماً على تركيا، فمستوى التعبئة ضد كل من إيران وروسيا، فاق كل تصور. حتى يمكن القول أن الفكر الوهابي اجتاح «الاسلاميين» الاتراك، مؤيدي الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وتحوّل هذا البلد، الذي دعا يوماً إلى سياسة صفر مشاكل، إلى بؤرة تعصب مذهبي، يمكنها أن تكون وبالا على البلاد. كما تسود موجة من العنصرية ضدّ الاكراد، حتى هؤلاء المقرّبين من حزب العدالة والتنمية. وتزداد مع كلّ عملية يصرّح حزب العمال الكردستاني مسؤوليته عنها.
لم يفكر الرئيس أردوغان قط، أن سياسته التي اتسمت بالتحريض على الرئيس السوري، سوف تنتقل إلى الداخل التركي. فانتصار حلب فجّر الداخل التركي ونفث مفكرو التيار الاسلامي الموالي، حقدهم على إيران واتهموها بالمذهبية وبانها تقود امبريالية جديدة تفتت العالم الاسلامي. كما قامت التظاهرات ضد إيران، بعد اخلاء المسلحين في حلب، حيث زاد الحقد والكره لها، اثر دعوات صناع الرأي الموالين للحكومة، في وسائل الإعلام، للاحتجاج ضد البعثة الإيرانية في تركيا. الأمر الذي أدى إلى احتجاج رسمي من قبل طهران، حيث مؤشرات التوتر سادت بالفعل، بسبب سورية.
غيّرت ست سنوات من عمر الحرب السورية، المشهد الاسلامي والسياسي الشعبي في تركيا، التي كانت تدافع عن إيران في وجه الولايات المتحدة الاميركية. لكن بعض الاقلام التركية تبرر الغضب السني التركي، في وجه إيران، بانه حصل بسبب طموحاتها في العراق وسورية ولبنان. وتتهمها بتنفيذ سياسة تفكك العالم الاسلامي. الا أنهم يذكّرون من جهة اخرى، بالموقف السعودي في اليمن وفي البحرين، اتجاه الشيعة. امتنعت حكومة رئيس الوزراء بن علي يلدريم، عن اتهام إيران مباشرة واوردت أنها تسعى وإيران من اجل استقرار الأوضاع في سورية وحل الأزمة.
قاد «سقوط» حلب، قاعدة الدعم «الاسلامية» للرئيس رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى شعور عميق من الانهزامية والاستياء. حتى اثيرت دعوات للانتقام من العلويين الأتراك. لكن المشاركة الروسية في هزيمة المقاتلين في حلب، لم تمنع انقرة من الاتفاق على اخراج المسلحين والتخطيط لمرحلة ما بعد حلب. بيد ان أنصار أردوغان لم يتقبلوا الامر، كما اراد. فالسياسة العامة نحو روسيا، دعت إلى تبني أطروحة ضبط النفس، لكنها كانت مجرد تمنيات، انفجرت باغتيال السفير الروسي. فـ»الاسلاميون» الموالون، يرون انه دفع ثمن سياسة بلده. وهم يعتقدون بقوة، أن هزيمتهم اتت بالفعل على يد التدخل الروسي في سورية، دعما للاسد.
موقف الحكومة، أتى كما بعد كل حادثة إرهابية، حيث منعت «تويتر» وعتمت على لإعلام. ورددت التصريحات نفسها، إذ أدان المسؤولون الحكوميون الإرهاب وهددوا بعقاب شديد. وسارعوا للقول أن اغتيال السفير «استفزاز يهدف إلى تقويض التعاون المتزايد والعلاقات الجيدة بين البلدين، أي تركيا وروسيا.
لا شك أن سورية هي المصدر الرئيسي لتصاعد الإرهاب في تركيا، لكن قاتل السفير كان واضحا في القاء عبارات دينية، تستخدم من قبل «جبهة النصرة» وتعهد بالانخراط في الجهاد. وقال انه سيثأر لمقتل المدنيين السوريين في حلب، على يد النظام السوري الذي تدعمه روسيا. أظهرت التصريحات الحكومية قلقا عبر بعض وسائل الإعلام، فجرى اتهام غولن، الذي نفى الامر بشدة. وتم إلقاء اللوم على الولايات المتحدة، لانها لم تسلم جماعة غولن للدولة. وكذلك، حمَل الفريق الأمني الروسي في السفارة، مسؤولية عدم تأمين الغطاء للسفير.
ومن أجل صرف الراي العام التركي عن الحدث، قامت وسائل الإعلام الموالية للحكومة، بتغطية افتتاح نفق أوراسيا في اسطنبول. وعنونت صحيفة «ديلي ستار» أن «الخدمات مستمرة على الرغم من الأوغاد»، في إشارة إلى «العقل المدبر» الذي يشتبه في انه وراء اغتيال كارلوف، لعرقلة تقدم تركيا في الاقتصاد وتشييد للبنية التحتية. واعتبر الاعلام الموالي لحزب العدالة والتنمية، أن اغتيال كارلوف كان مؤامرة أجنبية. وان أنقرة لن تستسلم لهذه المكائد للعمل من أجل السلام في المنطقة.
ليس كل ما يحدث في تركيا اليوم، مخططا مستوحا من الخارج، فالقاتل «التين تاش» هو مواطن تركي، تربى على افكار الحزب وسياساته. فالحزب الحاكم هو المسؤول الاول مع زعيمه، عن خلق هؤلاء المتطرفين الدينيين، من خلال رفع مشروع «الشباب الملتزم والمنتقم». هذا المصطلح في تصريحات أردوغان الأخيرة، دعا إلى إنشاء جيل متديّن في تركيا، حيث قدم النصح لأنصاره الشباب «بأن يستمروا بالغضب، في مواجهة الظلم الذي عان منه الاسلام التركي في الماضي، على يد الأنظمة العلمانية».
بعد حادثة اغتيال السفير، أتت حادثة مقتل 18 جنديا في مدينة الباب واصابة أكثر من 80 جنديا تركيا، تسعة منهم في حالة خطيرة، على أثر الهجوم الذي تخوضه تركيا ضد «داعش»، للاستيلاء على مدينة الباب، كفرصة لأردوغان من اجل تبرير المعركة واللعب على ذاكرة الأتراك، عبر الدعوة للقتال من اجل عدم الخضوع لظروف معاهدة سيفر، التي فرضتها هزيمة الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، التي قسمت ما تبقى من أراضي الدولة العثمانية. لكنه لم يذكر أن تركيا استطاعت أن تفوز بمعاهدة لوزان عام 1923 بعد حرب استمرت عامين، تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك.
أردوغان الذي تورط، تجاوز حدود معاهدة لوزان، عندما صرح بان على تركيا أن تتوسع على حساب سورية والعراق. كرر التركي نقطة مماثلة في خطابه في 22 كاون الأول. وقال إن تركيا تمر بفترة نضال منذ حرب الاستقلال. هو النضال للحفاظ على أمة واحدة، وطن واحد ودولة واحدة. في اشارة الى محاولته منع الاكراد في سورية، اي وحدات الحماية الكردية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، من وصل «الكانتونات» الكردية: عفرين في شمال غرب البلاد والجزيرة وكوباني، إلى الشمال الشرقي. ومنع أي مشروع حكم ذاتي كردي، يمكنه أن ينعكس على وحدة الاراضي التركية.
مصادر عسكرية تركية، تقول إن الوحدات العسكرية التركية، تواجه في سورية مشاكل لوجستية خطيرة، لأن الجنود الاتراك، غير مستعدين للشتاء، حيث إمدادات الغذاء والمياه النظيفة غير متوفرة وليس من السهل الحصول عليها. وفي نقد واضح لأردوغان، الذي يحب أن يؤكد دوره كقائد أعلى للقوات المسلحة التركية، في كل مناسبة ويسأل شعبه وجيشه التضحيات، أن يمكّن قواته لوجستيا، من أجل القتال على خطوط الجبهة وتنفيذ الاجندة التي يعدهم بها. والا يكون الاتفاق مع روسيا، هو حدود معينة في مدينة الباب، يقف عندها ليسلم الجيش السوري.
يتفاوض أردوغان مع روسيا وإيران، لعلمه انها الطريق الافضل لتكسب بعض المعارضة « المعتدلة « التي ما زال يدعم.