ظاهرة العصر: الاستقلال في الداخل… وعنه!
عشتُ من خلال التلفزيون، بالصورة والصوت، مشاعرَ ومظاهر فرحة حلب، أهلها وسكانها، بتحريرها من الإرهابيين وبعودتها الى نفسها.
إنها فرحة عارمة، عميقة، كيانية، جماعية. إنها فرحة السجين العتيق الخارج من عتمة سجن أبدي الى نور حريةٍ مشتهاة وعصيّة حتى في الأحلام.
ليس من الحكمة والعلم في شيء أن يبني المشاهد والمستمع من الصوَر والأصوات التي تفيض بها برامج التلفزيون نظريةً أو نسقاً فكرياً أو اجتماعياً. مع ذلك، لا بأس في تظهير المشاعر التي تطفو في العقل والنفس لحظةَ الانفعال بالصورة والصوت المنبعثين من مشهد نادر واستثنائي.
ما أعبّر عنه في هذه العجالة، إذاً، هو مجرد خواطر في لحظة انفعال بهيجة ومؤلمة في آن. إنها خواطر للتفكّر والتبصّر وليست أحكاماً للتقويم والتعميم.
بدَت حلب في فرحة تحريرها من الإرهابيين كأنها تحتفل بتحقيق استقلال عن خارجٍ وخارجيين كانوا يحتلون بعضاً من داخلها.
لا بدّ أنّ أفراداً وجماعات بين المحتفلين شعروا بأنّ بعض الداخل الذي كان يحتله إرهابيون خارجيون هو داخل سوري وليس داخلاً حلبياً فحسب. لعلّ هؤلاء شعروا ايضاً بأنه مع طرد الإرهابيين الخارجيين تحقق استقلال في الداخل الأصغر، حلب، عن الخارج الأكبر، أميركا وأوروبا و«إسرائيل»، الذي يشنّ حرباً لا هوادة فيها على الداخل الأكبر: سورية.
لا رغبة لدى حلب، أهلاً وسكاناً، ولا مصلحة لها في الاستقلال عن الداخل الأكبر، سورية، وطناً ودولة. لكن الفرحة العارمة بالتحرّر من الإرهابيين الخارجيين والابتهاج بالاستقلال في الداخل الأصغر عن الخارج الأجنبي الأكبر هي مجرد تعبير صارخ عن رفضٍ للارتهان لبعض الداخل المحتلّ والمرتهن لخارج أجنبي عدواني.
هذا الاستنتاج المبدئي أو البدائي يطرح سؤالاً: ما سبب هذه الظاهرة البازغة؟
لعلّ السبب الرئيس الذي تطفو مظاهره على سطح الواقع المرئي والمحسوس هو انفجار أو تفجير المجتمع التعدّدي في الداخل السوري ما أدّى الى استشعار بعض مكوّنات المجتمع التعدّدي بهوية خاصة أو بخصوصية متميّزة عن سائر الخصوصيات المحلية.
إلى هنا يبدو الأمر طبيعياً ومألوفاً في ظروفٍ للمكان والزمان استثنائية. لكن الأمر غير الطبيعي هو اقتحام قوى طامعة ومعادية من الخارج الأجنبي العدواني للداخل السوري المضطرب متوسّلةً عناصر محلية إرهابية أو ممتطية ظهور عناصر خارجية إرهابية وافدة أو موفدة بغية تعميق تفجيرات المجتمع التعدّدي في الداخل وتعميمها على نحوٍ يؤدّي إلى تشظّي الداخل السوري. ذلك يؤدّي بالضرورة إلى تجريح الشعور الوطني ناهيك عن توهين الالتزام بالهوية الجامعة التي تنتظم مختلف مكوّنات المجتمع. ولعلّ ذلك يؤدّي أيضاً الى «تطوير» الشعور بالاستقلال الظرفي في الداخل إلى استقلال متواصل عنه.
مَن له مصلحة في ارتكاب هذه الفعلة الإجرامية؟
إنها «إسرائيل»، بالدرجة الأولى، وقوى خارجية، طامعة ومعادية، في أميركا وأوروبا، كما قيادات محلية مغامرة داخل بعض مكوّنات المجتمع التعدّدي، مدفوعة بأنانية فردية أو مصالح مادية ضيقة.
يقتضي لفهم ما جرى ويجري في سورية وفي غيرها من المجتمعات العربية التنبّه إلى ثلاث واقعات اجتماعية وسياسية تارخية ناتئة: أولاها التعدّدية والتنوّع اللذان يطبعان مجتمعاتنا. ثانيتها سوء إدارة التنوّع من طرف الشبكات الحاكمة في الكيانات السياسية العربية المصطنعة. ثالثتها التدخلات الخارجية الدائمة في هذه الكيانات السياسية الهشة على نحوٍ أدّى ويؤدّي إلى بقائها مسرح حروبٍ واضطرابات ومنهَبَة سائغة لدول كبرى طامعة وعدوانية.
هذه الواقعات الثلاث أسهمت بدرجات متفاوتة في تصديع الهوية الجامعة لمكوّنات الداخل السوري، كما للداخل في بلدان عربية أخرى. كلّ ذلك يضع قيادة النظام السياسي، كما سائر القيادات السياسية والاجتماعية والثقافية في سورية وغيرها، أمام تحدٍّ ومهمة أساسيين: استعادة الهوية الجامعة كشرط لاستعادة وحدة البلاد الوطنية والسياسية وتوطيدها.
مهمة جلل كهذه تستوجب، بطبيعة الحال، مواجهة القوى والعوامل المناهضة للهوية الجامعة ولوحدة البلاد الوطنية والسياسية. التنظيمات الإرهابية، المتأصّلة منها والمصطنعة والعميلة، هي التحدّي الأول والعدو الأخطر الذي يستوجب المقاومة لكونه متداخلاً بنسيج المجتمع وناشطاً في مختلف أوساطه وميادينه. غير أنّ مواجهة هذا العدو لا يجوز أن تبقى عسكرية. فالإرهاب ثقافة قبل أن يتحوّل حركةً أو تنظيماً مقاتلاً. وهل تمكن أو تجوز مواجهة ثقافة الإرهاب بالبنادق والخنادق فقط؟
ذلك يستوجب بلا إبطاء معالجة متأنية وجريئة في آن.