عنفٌ تدميريّ يعقب انهيار الإيمان والمثال
جورج كعدي
حين لا يتوصّل كائن ما لا يصحّ أيضاً تعبير «الكائن» على «الداعشيّين» لكونهم من صنف أحطّ من الحشرات الضارّة والبهائم المتوحّشة إلى بلوغ هدفه عن طريق الخلق والإبداع يلجأ إلى التدمير والعنف الساديّ. وإذ يصف إريك فرومّ أشكالاً متعدّدة للعنف تسبق انفجار العدوانيّة التي هي غاية في ذاتها كما هي حال وحوش «داعش» فهو يصف عنف «اللعب» الخاص ببعض «الألعاب» الحربيّة للقبائل البدائيّة، كما يصف العنف الارتكاسيّ الناتج من الدفاع عن حياة كل فرد أو عن حياة الآخرين. والعنف الناتج من الكبت هو مثال عن العنف الارتكاسيّ. ومن أشكال العنف التي وصفها فرومّ نذكر أيضاً ذاك الناتج من الشعور بالغيرة أو بالحسد، فضلاً عن العنف التدميريّ الأسلم وصفاً للحالة «الداعشيّة» الذي يعقب انهيار الإيمان أو فقدان المثال والعنف التعويضيّ Compensatoire.
نقع في تحفة الأدب الكلاسيكيّ الإيطاليّ «الخطيبان» للكاتب الكبير أليسّاندرو مانزوني 1785 ـ 1873 على الوصف البليغ لـ«الجماعة»، ضمن الجزء الذي خصّصه الكاتب للهجوم على قصر ممثل ميلانو، إذ يقول: «ثمّة دوماً خلال الهياجات الشعبيّة أشخاص يبذلون مستطاعهم لدفع الأمور إلى الأسوأ، ويقودهم في ذلك شغف جامح، أو قناعة متزمّتة، أو بلوغ هدف مشين، أو حبّ للفوضى. فهم يطلقون النصح السيّئ ويدلون بالآراء الفظّة، وينفخون في النار إن رأوها تخبو، ولا يتراجعون البتّة أمام شيء. بالنسبة إلى هؤلاء، يجب ألاّ تكون للهياج نهاية أو مقاس. وثمّة في المقابل، أناس لا يألون جهداً، بالحماسة عينها والعناد ذاته، عن توفير جوّ معاكس. وبعض هؤلاء قد يتحرّك بدافع الصداقة التي يكنّها للأشخاص المهدّدين، أو بدافع المحاباة والغرضيّة حيالهم. أما الآخرون فلا دافع لديهم سوى الرعب التلقائي الذي تُحدِثُه إراقة الدماء والأعمال الوحشيّة. فلتبارك السماء هؤلاء وأولئك يقول مانزوني بنبرته الساخرة المشهورة استطراداً . وفي حال عدم وجود اتفاقات محتملة، قد يخلق التماثل بالتوجّهات لدى كل فئة من الفئات المتعارضة نوعاً من الاتفاق الآني في العمل، ما يشكّل لاحقاً الجمهور masse ومادّة الهياج. إنّه خليط طارئ من الأشخاص الذين يتلاقون إلى حدّ ما وبدرجات متفاوتة ومتشابكة عند أحد الطرفين، فبعضهم تثيره الحماسة والبعض الآخر الخبث والمكر، وبعض ثالث يطالب بالعدالة على طريقته، وآخرون يرغبون في مشاهدة أمور مثيرة أو في أن يكونوا أفظاظاً قساة … فهم في كلّ حين يتلهّفون إلى الأخبار الصاعقة، ويتوقون إلى الصراخ أو التصفيق، أو إلى الطعن والذمّ. والعبارات التي يطلقونها في سهولة فائقة «الإعدام…» أو «ليعش…»، ومن شاء إقناعهم بأن هذا الإنسان لا يستحقّ أن يُقتل، فإنّه قد لا يبذل جهداً كبيراً لإقناعهم، وقد يقنعهم أن الشخص الآخر لا يستحقّ أن يُدفع إلى النصر، فهم وفق ما تجري الرياح، إمّا ممثلون أو مشاهدون، إما أدوات أو عقبات».
لو وضعنا جانباً أخلاقيّة مانزوني التجريديّة لقلنا إن هذا الوصف البليغ لعدوانيّة الجماعات يعبّر عن العناصر الأساسيّة لسيكولوجيّة الجماعة: قابليتها للتأثّر، أحكامها المطلقة مثل إعدامات «داعش» التي لا رادّ لها ولا مسوّغ بشريّاً ، العدوى السريعة التي تكسبها، ضعف روح النقد أو فقدانه، وغياب حسّ المسؤولية.
كل شكل من أشكال العدوانّية هو تصوّر من تصوّرات المخيّلة عن شرّ يُمارَس أو شرّ نعاني منه نعاني منه لأنّه يُمارَس، ويُمارَس لأنّنا نعاني منه . وخلافاً للموت، يسعنا اختبار الألم. بيد أنّنا ندرك مع ذلك أن الموت هو الوسيلة الأساسية والحدّ النهائيّ لعدوانيّتنا، فنحن لا نستطيع أن تتسبّب للخصم بأكثر من الموت، كما أنّنا لا يمكن أن نتلقّى ما يتجاوز الموت.
تمسي فكرة الموت أشدّ رعباً وهولاً عندما تُشحن بقوّة بالساديّة، فثمة عدوانيّة فمويّة في الأساطير التي تحكي عن كائنات مخيفة تفترس كائنات أخرى، وعدوانيّة ساديّة ـ شرجيّة Sadico-anale في الأساطير التي تتحدث عن الأسر الرهيب والعبوديّة وسوء المعاملة، وعدوانيّة إحليليّة Ur trale في الأساطير التي تتناول النجاحات الباهرة التي تُذلّ الخصوم وتبيدهم، وعدوانيّة تناسليّة genital في الأساطير التي تحكي عن عمليات خصاء وعنف جنسيّ وفسق وقتل الأشكال كافّة التي تمارسها «داعش» اليوم . إنّها العدوانيّة المدمّرة والمهدّمة كليّاً، في معنى أكثر تحديداً من الوجهة التاريخيّة العدوانيّة غير الموضوعة في خدمة الحياة أو السعي وراء الغذاء أو الدفاع عن الفرد أو النوع ، أي العدوانيّة التي هي غاية بذاتها وتنتج من قمع الميول النفسية ـ الجنسيّة أو الميول الشبقيّة ـ العاطفيّة، أو من قمع الميول العدوانيّة الأصيلة في الكائن. قمع العدوانيّة يتسبّب بالمزيد منها، فتسامي العدوانيّة، اجتماعيّاً وتاريخيّاً، يلتبس في ميدان النتائج العمليّة مع العدوانيّة غير المتسامية. التشبّث الإيديولوجيّ واضطهاد «الكفّار» هما من الأشكال النموذجيّة للعدوانيّة المتقنّعة بـ«الدين» والمؤديّة، على ما نشهد ونعاني، إلى صراعات خطيرة يمكن تقديرها اليوم على مستوى الكارثة النوويّة.
تفني الجماعات مفرطة العدوانيّة بعضها البعض الآخر، من جرّاء الإفراط في العدوانيّة، إذ لا يمكن أن تستمرّ إلاّ إذا وجدت أو «اخترعت» على الدوام أعداء لتُخضعهم وتقهرهم وتضطهدهم وتستعبدهم وتزيلهم من الوجود، وفي حال عدم وجود أولئك الأعداء فإنّ هذه الجماعات توجّه عدوانيّتها إلى نحرها ويفني بعضها البعض الآخر.
قوّة العدوانيّة لدى جماعة وطابعها الشرس مرتبطان بشدّة أيضاً ببنية الجماعة الداخليّة. ويمكن القول إنّ عوامل عدوانيّة الجماعة سواء كانت مهيّجة أو كامنة أو متجاوزة هي أكثر من ذلك كلّه وأعقد. ثمّة نوع من شدّ الحبال والحركة الجدليّة بين البنية الداخليّة وخطر الصراع نحو الخارج، ويمكن النظر إلى كلا الأمرين بكونه مؤشّراً لمستوى العدوانيّة، فالجماعة ذات البنية الصلبة تراتبيّاً، إذ لا توجّه عدوانيّتها نحو الخارج ولا تعثر على العدوّ الذي تقاتله أو كبش الفداء الذي تنقضّ عليه، ترتدّ نحو الداخل متسبّبة بتفكيك الدولة والنظام ومشعلة الحرب الأهليّة ومحدثة الصراعات على مستويات شتّى.
تنجم العدوانيّة التدميريّة عن مركّبات نقص عديدة: كبت، صدّ جنسيّ بخاصة ، قصور عاطفي، شعور بـ»الظلم»، شعور بالإثم والنقص، صعوبة التكيّف الاجتماعيّ، قمع روح المبادرة… وتتحوّل العدوانيّة إلى تدميريّة خلال تراكم عمليات الكبت العاطفيّ، خاصة عمليات الكبت الشهوانيّة الجنسيّة وتلاقي الليبيدو المقموع مع العدوانيّة.
أينك دكتور فرويد من «داعش» و«الداعشيّين» كي تشرح لنا مكوّنات هذه الشخصية المريضة التي لا ترى علاجاً لمكبوتاتها المرضيّة من كلّ نوع سوى تكفير الآخرين وقطع رؤوسهم؟!