ظروف ومعاني ومستقبل القرار الدولي بوقف الاستيطان الصهيوني
محمد شريف الجيوسي
أسئلة كثيرة تُثار حول مغزى وتداعيات ونتائج قرار مجلس الأمن المتّخذ في 23 كانون أول الحالي بأغلبية 14 صوتاً وامتناع الولايات المتحدة الأميركية عن التصويت، والذي يقضي بوقف الاستيطان الصهيوني في الضفة الفلسطينية المحتلة منذ سنة 1967، على غير عادة واشنطن بتعطيل أيّ قرار لصالح القضية الفلسطينية بخاصّة، وقضايا العالم العربي بعامّة.
لا بدّ أنّ القرار رغم أهميّته لا يعني شيئاً كثيراً، كما حاولت بعض وسائل الإعلام وبعض الكتّاب والمحلّلين السياسيين تصوير القرار.
والقرار تجاهل عمليات الاستيطان الصهيوني المستمرة في في فلسطين المحتلة سنة 1948 وما بعدها، فضلاً عن مصادرة أراض أميريّة، كما في الجليل والنقب والمثلث، ونعلم أنّ الصهاينة هدموا ويهدموا باستمرار قرى عربية في النقب، وأقاموا عليها مستوطنات يهودية أو هم يمهّدوا لإقامة مستوطنات جديدة عليها بعد تشريد المواطنين العرب الفلسطينيّين عنها.
بهذا المعنى يعتورِ القرار نقيصتين رغم أهميّته جزئياً أنّه لم يتضمّن آليّة عملية حازمة وحاسمة لوقف الاستيطان الصهيوني مستقبلاً، ولم يتضمّن كذلك آليّة لهدم ما بنى الصهاينة من مستوطنات منذ احتلال الضفة الفلسطينية سنة 1967، وترحيل المستوطنين الصهاينة عنها.
أمّا النقيصة الثانية، فتتعلّق بتجاهل القرار الاستيطان على حساب الشعب الفلسطيني حتى بعد قيام الكيان الصهيوني ونكبة فلسطين سنة 1948.. حيث أُقيمت مستوطنات ومستعمرات صهيونية على أراضٍ يمتلكها فلسطينيّون مقيمون ومهجّرون، وخلافاً حتى لقرار التقسيم ولأصول التعامل مع الأراضي الأميرية.
أمّا لِمَ لَمْ تستخدم واشنطن حق النقض ضدّ القرار، فذلك يتعلّق بأكثر من مسألة، أولاها المتغيّرات الجارية على الأرض في المنطقة، حيث يواجه المشروع الإرهابي الأميركي وتحالفه الدولي والإقليمي هزائم متتالية في سورية والعراق واليمن وليبيا وحتى في مصر، وقد بلغ في إحدى ذرى الفشل الأكثر أهميّة سقوطه المدوّي في حلب، ما يستدعي إعادة النظر في كلّ آليات التعامل السابقة مع قضايا المنطقة، وعدم استفزاز المشاعر القومية والتقدّمية الصاعدة فيها، فيما حلفاء المشروع الأميركي الإرهابي الرجعي الإقليمي والدولي في حالة نكوص وهزائم ولا مراهنة عليهم.
أمّا المسألة الثانية، فتتعلّق بتغيّر الاصطفافات في الإقليم، حيث يتكرّس ائتلاف دولي جديد روسي إيراني تركي، وحيث أنّ روسيا وإيران حليفتَي سورية الرئيسيّتين، فهذا يعني ضمناً أنّ دمشق جزء من هذا الائتلاف خلال وقت يسير، وانضمام العراق إليه، أكثر من محتمل، بخاصة بعد مطالب بغداد بالانضمام إليه بلسان وزير خارجيّتها الجعفري..
وهذا يعني أنّ تركيا قد استدارت إلى حدّ بعيد، ومرشّحة لمفارقة واشنطن وتحالفها وبالتدريج قد تصبح خارج معادلة «الناتو»، رغم ما ينطوي عليه أردوغان من غدر وسوء طويّة وأطماع عثمانية وبصيرة غبيّة، إلّا أنّ فشل المشروع الأميركي والمشروع الإخواني في المنطقة المتساوق مع أمريكا، وقرار سورية وروسيا وإيران بإسقاط مشروع الكانتون الكردي الأميركي في سورية الذي كان يؤرّق تركيا من أن يمتدّ إليها، ورفض واشنطن تسليم تركيا غريمها المقيم هناك بحماية أميركية، وما زال يمتلك هذا الغريم أدوات قوة في تركيا هي الأكثر تطرّفاً، فإنّ لأنقرة مصلحة استراتيجية في الاستدارة، يزيد ذلك تعرّي وافتضاح وفشل مشروعها التوسّعي في سورية وتحرير حلب، فضلاً عن مصالحها الاقتصادية البالغة الأهمية مع كلّ من روسيا والصين وإيران وسورية والعراق في الأمن والنفط والغاز والسياحة والاستثمارات والنقل والانتقال، وفي مناهضة الإرهاب الذي بدأ يرتدّ على تركيا.
والمسألة الثالثة، فهي أميركيّة داخلية، حيث من الواضح أنّ أميركا اتّخذت قرارها بإعادة النظر في مجمل سياساتها الراهنة، بما في ذلك تعاملها مع القضية الفلسطينية.. وهو ما أعلن عنه الرئيس الأميركي المنتخب ترامب، وعدم نقض الإدارة الحالية القرار التي تمثّل تيّاراً قوياً داخل الولايات المتحدة وإن هُزمت هو محاولة لتصعيب الموقف أمام الإدارة المقبلة والتيار المنتصر، في التعامل مع هذا الملف، وربما لتسهيل الأمر على الإدارة الجديدة في التحلّل من وعودها الانتخابية، فأميركا دولة مؤسسات حاكمة متنفّذة ولا يعني فوز أحد المرشحَيْن وخسارة الآخر أنّ أحدهما خارج معادلة الولاء لهذا النظام بكلّ تعقيداته. لكنّ فوز التيّار الذي كان خارج معادلة الحكم يعني ضرورة التغيير في تكتيكات التعامل مع القضايا الساخنة الكبرى ذات الطبيعة الاستراتيجية وعدم استخدام النقض، قد يكون في هذا الاتجاه للتحلّل من وعود قطعها ترامب لا تنسجم مع الاسترتيجية العامّة المقبلة.. وما تفرضه وتتطلّبه المتغيّرات وتحسين العلاقات مع قوى دولية نافذة كروسيا.
ورغم كلّ ما سبق، فسيكون للقرار تداعيات داخلية على الكيان الصهيوني، بخاصة في حال تمكّن الفلسطينيون من تحقيق مقاربات جيدة في عدد من المنظمات الدولية، وفي حال استعادة الوحدة وإنهاء الانقسام وتعزيز الانتفاضة بكلّ أشكال المقاومة، وأخال أنّ تقدّم محور المقاومة بمواجهة الإرهاب وتحرير حلب والتغيّرات الإقليمية ستُسهم في تعزيز الوضع الفلسطيني، ما يعني الإسهام في تفكّك الجبهة «الإسرائيلية» الداخلية وتبادل الاتهامات عن المسؤولية في الوصول إلى هذه الأوضاع وازدياد هشاشة الوضع «الإسرائيلي» الذي تبدّى واضحاً منذ عام 2000، رغم إمساك واشنطن بزمام الأمور في العالم اعتباراً من سنة 1990.
لكنّ القرار الأممي لن يُطبّق علناً، ولن تلتزم به «إسرائيل»، إنّما سيُسهم في تفكّك الوضع الداخلي جرّاء ما أشرنا إليه، ما قد يتسبّب في تعطيل الاستيطان أو تباطئه من دون إذعان «إسرائيلي» معلَن للقرار جرّاء حسابات استهلاك داخلية، ومكابرة دينكوشوتية لا تنطوي على ما تعبّر عنه في الواقع، وستبقى المستوطنات الصهيونية السابقة على القرار وما قد يجدّ قائمة، ما لم يصبح الشعب الفلسطيني على قدْر من القوّة المسلّحة تؤهّله لتطبيق القرار الأممي بأثرٍ رجعي.
أمّا لِمَ اتُّخذ القرار بهذا الإجماع، فبالتأكيد أنّ دولاً كماليزيا والسنغال وأنغولا وأروغواي ومصر هي دول خارج اللُّعَب الدولية إلى حدّ معيّن، ويرجّح أنّها اتّخذت موقفها الطبيعي في ظلّ غياب ضغوط أميركيّة للتصويت ضدّ القرار وتشجيع روسي وصيني، أمّا الدول الغربية فرنسا وبريطانيا وألمانيا وأوكرانيا وإسبانيا ومعهم اليابان، فبالتأكيد اتّخذت قرارها بالتنسيق مع واشنطن.. وهي تعلم مغبّة الاستمرار في سياسة الدعم المطلق للكيان الصهيوني المتعنّت، علماً أنّ دولاً أوروبيّة توقّفت عن استيراد منتجات المستوطنات الصهيونية المُقامة بالضفة.
أمّا روسيا والصين وفنزويلا، فمن المؤكّد أنّها ستصوّت مع القرار كدول صديقة للعالم العربي، ومن دون أدنى تنسيق بالطبع مع واشنطن وحلفائها، بل لا بُدّ أنّها حثّت دول العالم الثالث على التصويت لصالح القرار.
بكلمات، لا بُدّ أنّ القرار على قدر محدود من الإيجابية غير الحاسمة، أو التي يمكن المراهنة عليها، لكنّه يتّصل من حيث إيجابيّاته بتحوّلات جارية على الأرض وفي التحالفات المستجدّة، وقد يتجذّر القرار لاحقاً في ضوء مستجدّات تجري بذات الاتجاه، وقد لا ينتظر الشعب الفلسطيني قراراً أمميّاً جديداً، ويعمل على تنفيذه بأثر رجعي في كلّ فلسطين المحتلّة، فقد طالَ انتظار العدل الدولي الغائب والعاجز وغير العادل، بعد نحو 7 عقود عِجاف من الصبر والمراهنة عليه والانتظار.
m.sh.jayousi hotmail.co.uk