ثقافة المقاومة سبقت المثقّف العربي
جهاد أيوب
بهدوء، وبعيداً عن العنجهية البغيضة، أو الفوقية اللاغية التي ميّزت واقع الثقافة العربية المعاصرة، نقول إن تجربة المقاومة في لبنان أفرزت ثقافة خاصة لها حضورها، وجمهورها العريض، والمتعصّبون لها، والمنسجمون مع خطابها وخدماتها وفعالياتها.
أفرزت ثقافة منوّعة، قريبة من أناسها، وتشبههم، وتتفاعل معهم، وتتعامل مع خطابهم بتواضع ولغة غير بعيدين عنهم، وليست غريبة منهم من دون أن تأخذهم إلى الكمّ على حساب الكيف، ومن دون أن تجعل منهم أبواقاً تصرخ دون صوتها، بل أصرت أن تنزل إليهم، وترفعهم معها إلى ما يوازي فرصهم وأحلامهم رغم الواقع الاجتماعي والوطني المرير.
أفرزت ثقافة متينة على أكثر من صعيد أهمّها الصعيدان الإنساني والفكري حيث فرضتهما على المجتمعات العربية والغربية ببساطة وبعيداً عن الغرور والادّعاء.
هذا الفرز أصبح منهجاً واضحاً عند الساعي إلى القراءة الاجتماعية والسياسية والعلمية، وأصبح أكثر وضوحاً عند أعداء المقاومة رافضي المساحة الثابتة التي فرضتها المقاومة كثقافة ثاقبة داخل المجتمعات العربية، ما زرع الخوف عند السلطة والنظام، عند الحاكم المرتهن، والمواطن التاجر التابع لأنظمة مترهلة تدور في الفلكين الأميركي و«الإسرائيلي»، وكذبة حبّ الحياة، والبلد أولاً، ويكفينا دماء، و«إسرائيل» هي الواقع الوحيد في العرب.
وبالطبع، المحور المناهض للمقاومة لم يكن متفرّجاً، ولم يستسلم في مشاريعه السياسية، فزرع ثقافة هدّامة مدعومة بالمال الوفير. وكاذب من يقول إنها لم تؤثر في محيطها، ولم تستقطب بعض الوجوه التي ادّعت ذات مرحلة أنّها مع المقاومة. وما أن أهملت من قبل مشروع المقاومة لأسباب معينة، وبسبب ضيق الحياة سارعت ونقلت البندقية من كتف إلى كتف بفجور وثرثرة تبرّر الفاجعة.
في المقابل، واهم من يعتقد أن فريق المقاومة يبتسم فقط، ولا يدرك خطورة دور الآخرين وأفعالهم الشنيعة رغم ربطة العنق، فريق المقاومة يثق بثقافة النضال والشهادة والتجربة التي ترجمت بثقة فنون وآداب منوّعة فاقت ما يقدّمه إعلام الفريق الآخر المنطلق من سذاجة الفكرة، وسهولة الطرح بحجة أن الناس متعبون، ولا يرغبون بتشغيل فكرهم، وضيق الحياة يفرض عليهم الثقافة الاستهلاكية غير المؤثّرة، مع أنها تحفر في ذاكرة الناس والمجتمع والثقافة بئراً عميقةً ستصيبها بالجهل وفوبيا التركيز مع الأيام.
المقاومة أدركت خطورة ما يفعله متعمّداً الفريق المناهض لها، وفي المقابل لم تخف منه بل استمرت في تدعيم نهجها في بناء ثقافة تتطلّب المزيد من الثبات والتواصل والحنكة في زمن سياسة الهروب إلى الجنس والمتعة والبسمة الماجنة، وسهولة أن تكون مذيعاً وممثلاً من دون الموهبة، وأن تصبح شاعراً قاصّاً ناقداً من دون معرفة، وكذبة الفنّ من خلال تقديم ما هو أكثر من تهريج وأعمق من صراخ، وحركات بهلوانية تتعمّد إيحاءات جنسية، وتسويق فكرة أن يكون البار والنادي الليلي في كلّ بيت عبر برامج حمراء لا أكثر.
مشروع ثقافة المقاومة يسير لا بل سار بعمق وثقة إلى أن أحدث الخلل والصدمة لذاك المشروع، مع أن هذا الأخير لم يكن يوماً متفرّجاً، بل هو يصرّ أن يدخل الجمل من ثقب الإبرة، وأحياناً ينجح حينما يكون المتلقّي منعزلاً، ويعيش في خرم العنصرية والطائفية، ومن السهولة أن يصدّق فبركات إعلامية تركّب السموم في حملاتها الهادفة لتخريب الحقيقة.
وفي خضمّ الحملات الإعلامية المطبوخة في الغرف السوداء هنا وهناك، والمنتشرة في الفضاء العربي، ومع شراسة الحقد السياسي والطائفي والحزبي العنصري على جمهور المقاومة، ومراقبة أنفاس وخطوات زعامات المقاومة وأفرادها، واتهام المقاومة بفعل عاصفة ثلجية وقعت بشكلها الطبيعي، أو شجار حدث بين أناس لأسباب مادية، أو حفرة في طريق فرعية، نستطيع القول مصحوباً بهذا الكمّ الكبير من الاتهامات والتجنّي، وانتصارات القويّ المتواضع من دون إلغاء الآخر حتى لو كان هذا الآخر مناهضاً وجاهلاً ومتآمراً، نقول: المقاومة سبقت المثقف العربي، ولجمت إعلامه بمصداقيتها، وشارع هذا الأخير سبقه أيضاً.
لذلك، نشير أليوم، وبكلّ جرأة ووضوح إلى أنّ المقاومة لم تعد تحتاج إلى المثقّف بل المثقّف يحتاج إليها. وحتّى يعود الوهج إلى المثقف عليه أن يسير في فلك المقاومة. وعلى المثقف أن يكون مقاوماً بمختلف جوانبها وأنواعها، ويبحث عن حقوق المظلوم كي يشاركه أو يقاوم عنه.