في وسم الغياب
النمسا ـ طلال مرتضى
يا لتعاستكم أيها اللبنانيون… يا لبؤسكم الوبيل!
قوم أنتم لا تحفظون الحبر، أخْيركم خَيّْره للغير، وأنْبهكم مُصاب بآفة النسيان. تطالعني الآن ـ من سرداب غربتي ـ تصاويركم كلّها، واحداً… واحداً.
أنا لا أتنكّركم أحفظ قسمات وجوهكم عن ظهر قصص كانت أمثولتي في مفاز الحياة.
علّمني أبي الطاعن في بدويته، أن الضرب في الميت حرام، ما عساي ضارب بكم، أو شامت أو شاتم، وأنا كمن «تفّ» ملء فيه بهو السماء. مثلكم أنا، أتلمّس التعاسة بأصابع عاكفة عن الكآبة، وأضاهيكم بالشبه المطابق بالبؤس. لهذا تجدونني الآن أمسح عنّي «بُصاقي»، الذي ارتدّ طيّ وجهي الكئيب.
بعيداً عن خيبتي بي وبكم، ليطال منّي أيام السؤال الذي ما فتئ ينكز سوس الذاكرة، كيف تتصوّرون أن يستفيق اللبناني من نومِه، يحرّك مؤشر المذياع بنصف عين كي يُدخل فيروز إلى بيته، كجرعة منشّطة، أو فرض عبادة، يفتتح بها يومه على هدلها الرخيم، «حبّيتك بالصيف… حبّيتك بالشتي»؟ فيروز التي لا تغار منها زوجاتنا وحبيباتنا. هي بالتأكيد زاد اللبناني الصباحي، مثلما تمثّل، بالنسبة إلينا نحن السوريين، تميمةً، حرزاً ندرأ به شرّ اللحظات العصيبة. ماذا يعني أن نستفيق ولا نجدها؟
أنه اليُتم الحقيقي، الضياع الذي يجعل من قهوة اللبنانيّ بلا طعم، كيف لا وفيروز مغيّبة و«السفير» أحجمت عن الصدور؟
يا للمصيبة… لماذا لا نحفظ الودّ؟ من منّا خان الآخر، من منّا علّم الآخر فتنة الغياب؟ لست حزيناً عليكم، فأنا مطعون في صميمي.
حين أرصد عن كثب أكشاك بيع الصحف ولا أطالع حضور «السفير» بينها، وكأني بالصحف الأخرى المعروضة تقيم عزاءها الكبير على مدّ الأرصفة الرتيبة.
كم يهولني أن أرى طود الصحافة، طلال سلمان يعبَ شارع الحمرا عارياً، على رغم تحسّسي من بزّته الزرقاء وربطة عنقة المنمنمة، ولفحة «السمار» المنعكسة من جبينه البقاعية الحرث، لم يزلْ طعم عطره يتحلّل على حليمات لساني عندما انحنيت كي أقبّل يده عند أوّل لقاء بيننا، في «زوايا بيروت الثقافية» فارتعد كمن أصابه مسّ كهربائيّ صارخاً بي: «أستغفر الله».
حينذاك، ابتسم الدكتور عماد بدران بلؤم العارف، قائلاً: «الليلة التقى عندي الطلالان، الكبير والصغير». وحدها تلك المرّة شعرت بأنني كبير، وحاشى أن أطال المقام، فقط لأنه قال: «الطلالان».
قد أجدني أقهقه مثل معتوه، ملء شدقي، حين أتفحّص رواد مقهى «كوستا» كلّهم، وهم منشغلون بقصص «التفنيص» ورسم الخطط الواهية لإيقاع غزالة عابرة للشعر، فاتها موعد الطائرة وجاءت لـ«تفشّ قهرها». يا للغرابة، جلّ الحضور تركوا لنسائهم مهمة إدارة شؤون المنزل، ليتفرّسوا بحرّية تامة الشاعرة الضيفة ولِمَ لا… حيث لا «سفير» لديهم اليوم كي يحلّوا كلماتها المتقاطعة.
منذ اليوم، انطفأت جذوة الشوق لك يا عبّاس بيضون. بالتأكيد كنّا ننتظر يوم السبت على مضض كي نقتنص فرصة اللقاء بك في مقهى «الروضة»، من يتنكّر لهذا فهو بائس مثلنا. ولا أخفي السرّ حين كان البعض منّا يخون غيابه، ليداهم مكتبه القابع فوق عتلة الطابق الرابع «السفيرية»، كامبرطورية أفلاطونية فاضلة حرّاسها ممّن يمتهنون الكآبة. هذا ليس بسبب الشوق وحده، بل لأن إبريق الشاي الذي يطلبه عبّاس بيضون من «بوفيه» الجريدة، يأتي مخمّراً حدّ التخثّر.
منذ اليوم يا سيّدي لن يجدي أن تطلب من نادل مقهى «الروضة» أن يغلي لك «ركوة» قهوتك أكثر ممّا ينبغي، وأن يزيد من كمّية البنّ قليلاً. بالتأكيد سيدوّن النادل هذه المطالب الحقّة على «الليست»، وما أن يدير لك ظهره، ستسمعه ينادي عامل المطبخ: «واحد قهوة للأستاذ عبّاس».
عندما قرأت مقالك الأخير، حول تجربة خيرات الزين، رصدتك بعين القارئ العارف، وأحسست بكلّ باقي الحواس، بأنّ الفارس المغوار وصل إلى خطّ النهاية، فكان المقال طلقة الرحمة التي أولمتها في «العشاء الأخير».
مستسلم أنا لحقيقةٍ أن لا أحد رابحاً في أيّ حرب حتى في حرب الحضور الكل خاسرون. وحده عرّاب الحكايات، ولبلب هوسها عصام العبد الله الفائز الدائم، لا تفوته فائتة ولا تبيته بائتة. يعرف من أين تؤكل القصص، فـ«يهبر» ما تبقّى من «منقوشة الزعتر» وعيناه مسلّطتان مثل رادار عالي الذبذبات الاستشعارية، نحو مدخل المقهى، كي يلقي القبض على القادم توّاً من قدّاس لا ناقة له فيه ولا فرس، ـ عماد شرارة ـ الذي يتأبّط الكيس البلاستيكي المتخم بصحف اليوم، وخوفاً من أن تلتقطه حسناء «فايسبوكية» وتسلبه حصته، أي حصة عصام العبد الله، عدد «السفير» الذي قرأه وباركه «أبونا» منذ ساعات قبل أن يصير ملك يمين لعماد شرارة.
عصام العبد الله لا يتوانى عن أخذ «السفير» معه إلى المنزل حتى ولو تشربت من تفل القهوة على الطاولة العامرة بروّادها. لا بدّ أنّ زاهي وهبي سيشعر بالملل لرتابة الجلسة، لا لشيء، بل لم تعد هناك مواضيع ساخنة يلهب أوارها عصام العبد الله كمحراكٍ للشهية، تستوجب اعتراضاً، حاسماً، هادئاً من جودت فخر الدين، الذي انشغل بإشعال سيجاره الكوبيّ على مقعد الستين.
بالتأكيد، لستُ بأحسن حال منكم يا أشاوس الزمرة الخائنة، ها أنا أمقتني وأنا مثل عابر حبر فقد ظلّ حضوره، حين أتفقد موقع «السفير» عبر الشابكة فلا أجده.
قلت لك ذات جلسة نميمة يا اسكندر حبش: أنا أعرف المثقفين السوريين تماماً، لا دين لهم ولا هم يحزنون، وإن هؤلاء المتجمهرين حولك ليسوا إلا شذّاذ أفاق. بتّ متيقناً الآن أنك سوف «تكرع» عدداً لا بأس به من كؤوس العَرَق وحيداً في حانة دمشقية، تستمدّ ضوءها من شمعة ذاوية كما ذوى من حولك «المنتفعون».
أمس، وأنا أميد النظر نحو باسكال صوما وهي تفرغ درج مكتبها المكتظّ بـ«أقلام الحمرة» لا الحبر ـ التي يغويني طعمهاـ في حقيبة ذكرياتها السالفة. هالتني دوائر الحزن التي تكوّرت حول عينيها. كلّ شيء انطفأ في محيّاها فجأة. أتذكر ساعة وصولها إلى مبنى «السفير» سالفاً، حين تترجل من سيارتها، أتمتم: وصلت فراشة «السفير» في كناية لقُصر تنّورتها الشفيفة البيضاء، التي تشابه تنانير الأميرات اللواتي رقصن «رقصة البجع».
تالله… رغم فجيعتي بكم أيها اللبنانيون، لم أستطع لبرهة زرع ذرّة كره لكم، أحبّكم بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى ومبنى، لا لأنكم أفذاذ، بل لأنكم صنعتم منّي «عابر حبر». فحين كنتم تجهدون لطباعة المجلات والصحف كي تلفّوا بها «المناقيش»، كنت ذاك الفتى الهارب من جور الله، أنبش مكبّ النفايات قرب «وادي أبو جميل» آنذاك قبل أن يصير «سولوديراً»، بحثاً عن صحيفة ما أو مجلة، تجاهل قارئها عن قصد حلّ كلماتها المتقاطعة، ليتركها لي ككفّارة ليوم آتٍ لا ريب فيه.