الخليج… محاولة فهم

د. رائد المصري

تُثَار تساؤلات كبيرة ومحيِّرة منذ بدء ملامسة الواقع الدولي لمساراته السياسية، في محاولة لاستيضاح رؤية الأداء السياسي الناظم لدول الخليج في منطقة الشرق الأوسط والعالم، خصوصاً ما يتعلَّق منها بالقضايا الحسَّاسة كفلسطين والصراع العربي الصهيوني، أو بما يتعلَّق بدول الجوار ومنها المشرقية بالتحديد ومعها مصر، وهو ما بات يُشكِّل هاجساً لدى القراء والناقدين والباحثين في هذه المرحلة بالذات التي اختلفت فيا وتبدَّلت وُجهات النظر والأحلاف وصار التفاعل بين الشعوب معقَّداً وغير مستقر على فهم ونسق واحد.

فلا يُمكن الاقتناع بالمطلق بأنَّ المشروع الأميركي والغربي الاستعماري عبر أدواته وتكنولوجياته المتطوِّرة في الإعلام والتحريض قد إستطاع التأثير على العقل العربي الجمعي والخليجي، وجعلَهُ يتحوَّل في نظرته لقضايا الصراع في المنطقة على أنَّها مذهبية وطوائفية بحتة، وأنه لا مكان أو لم يَعُد هناك من متَّسع للحديث حتى عن مشكلة شعب وقضية ونزوح وتهجير وقتل وتشريد مثَّلتها فلسطين في أكبر وأخطر نكبة عرفها التاريخ الإنساني إلى اليوم. وليس باستطاعتنا معرفة السَّبب في ما شاهدناه وعلمناه ووثقناه بما يخص الهزيمة والفرار الجماعي للجنود السعوديين من المعارك على الحدود اليمنية، وتزداد الأسئلة المحيِّرة والمُحرجة التي قلَبت صورة المملكة العربية السعودية أمام حلفائها قبل أعدائها كقوَّة يُمكن الاعتماد عليها، وهو ما فتح الباب سريعاً حول التساؤلات عن معنويات قياداتها وهبوطها في هذا المنحدر في قدرتها، ناهيك عن النظرة إليها ممَّا يزيد من أزمتها ودورها المهدَّد بالسقوط.

هنا نتحدَّث عن مجتمع إنساني خليجي وسعودي باتَ بحاجة ملحَّة لمعرفة الضوابط والأحكام التي تربطه بدولته والعقد السياسي والاجتماعي الناظم لهذه العلاقة، خصوصاً بعد المشاريع السياسية والاقتصادية التي طرحتها المملكة لرؤية عام 2030 والتي تتطلَّب بدورها شراكة في القرار الاقتصادي، وكذلك مثله في القرار السياسي لحماية المكتسبات والاستثمارات، وهو ما يقود أو سيقود حتماً إلى اعتماد التعدُّدية والتشاركية في السلطة مستقبلاً. فكل الأطر التفاعلية المعدومة وغياب التنسيق في السياسات المخفِّفة من غلوِّ وتحدِّي السلطة المركزية ينطبق على المؤسسات العسكرية المعزولة أصلاً عن أيِّ تفاعل مجتمعي حاصل الذي تبدَّى في هروب جماعي من أرض المعركة.

هو إرباكٌ عانت منه السعودية وظهر مؤخراً وتبدَّى حول تحديد طبيعة الهُوية التي تتبنَّاها المملكة، إذ إنَ المفهوم القومي أو الدولة القومية ضعيف للغاية فالتنشئة الوهابية أكثر فاعلية وقوة، تنشئة قائمة على الفهم الديني الذي يقسم الدنيا الى دارين: دار الإيمان ودار الكفر، هذه التنشئة التي تأسَّست على الفهم الوهابي المغلوط جعلت المواطن يتساءل بحيرة عن حماية المقدسات المُغتصبة في فلسطين منذ عقود، ويتساءل عن نشاطات الغرب وترساناته المتعسكرة في جزر وقواعد الخليج، ليغيب عنه التحديد الممنهج بمَن هو العدو ومَن هو الصديق والمعيار الذي يحكم أنفعالاته وتفاعلاته…

مجمل القول َإنه حتى من المنظار الديني، يجب أن تتصدَّر «إسرائيل» وكيانها المغتصب أرض فلسطين بأن تكون دار الكفر، وبالطبع معها أميركا ووكلاؤها وداعموها وليس غيرهم من المِلل والطوائف. وها هم اليوم يتراقصون طرباً مع قادة الصهاينة الذين يزورون دول الخليج ومنها البحرين مؤخراً، ناهيك عن العلاقات الودِّية التي باتت مُعلنة بتشبيك يبدأ بالاقتصاد ولا ينتهي بالسياسة.

فكان يُفترض التهليل بمجيء دونالد ترامب الرئيس الأميركي المنتخب ولمواقفه التي تناصب إيران العداء، وتريد من جديد تقويض سياساتها التي تعتبرها السعودية تمدُّداً لنشر الشيعية السياسية في البلاد العربية وانتقاصاً من الكرامة العربية، إلا أنَّنا لم نرَ سوى الحذر والتوجُّس وطرح القوانين الأميركية المكبِّلة للمملكة وبالحدِّ الأدنى اعتماد سياسة اللَّجم والتعرية أمام الخصوم، كذلك الحذر والريبة الخليجية والسعودية من وصوله الى البيت الأبيض وفتح العلاقات التاريخية مع بريطانيا التي أنتجت حقائق تآمرية مدمّرة لا زال العالم العربي يعيش تداعياتها حتى أيامنا.

زيادة التوتير في العلاقات العربية، خصوصاً العلاقة مع سورية ومصر ومن ورائهما العراق واستفحالها بهذا الشكل، لن ينتج سوى الغرق أكثر في الدماء والاحتراب، وبالطبع لن تكون دول الخليج بمنأى عن كلِّ ذلك.

فلطالما كانت السياسات السعودية تُدار من الوراء ومن خلف الستار وبالبُعد عن الأحداث المباشرة، سياسات ملتبسة في الإقليم ومخالفة لمنطق التاريخ لتشكِّل اليوم أكبر التحدِّيات الوجودية لدول الخليج مجتمعة، لأنَّ هذا التكديس والوفرة في السلاح النوعي الذي أنفقته بمئات مليارات الدولارات ووضعته في مخازنها، لم يره العالم العربي والإسلامي يُفتح إلاَّ من أجل ضرب شعب أعزل فقير ومُعْدَم نعني به اليمن ، وليس في وجه المحتل الصهيوني الذي داس على كلِّ المقدسات والكرامات العربية للإسلام والمسلمين.

لا بدَّ من القول إنَّ الواقع العسكري السعودي قبل السياسي، يعكس واقع المجتمع المأزوم ويعكس سياسة أمرائها في جدوى الوظيفة العسكرية وإنشائها كخدمة مملوءة بترسانة تسليحية متقدِّمة دون فائدة، في غياب العقيدة القتالية التي تتخبَّط بين الإرباك وطرح التساؤلات. هذا الغياب كما تقدَّم للعقد الاجتماعي يُؤثِّر ويُضعف من العلاقات التبادلية داخل المجتمع والقائمة على الحقوق والواجبات، وعلى الدولة كمشروع ريعي وعلى الأداء السياسي والبُعد الاستراتيجي، وهو الذي ألْغى منذ عقود عملية تثبيت الهُوية الواحدة والجامعة وتركيز مبانيها وأسسها ومنطلقاتها لوضع الخطوط البيانية الواضحة لإعادة الثقة والمبادرة والتضحية في سبيل تحقيق الأهداف السامية والنبيلة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى