ثقافة المقاومة سبقت المثقّف العربيّ
جهاد أيوب
لا خلاف على أنّ دور المثقف العربي اليوم اختلف عنه في السابق، وغالبية المثقفين اليوم لا تعنيهم قضاياهم الإنسانية والفكرية، ولا حتى قضايا أمتهم لأن الأمة غائبة، وتكاد تكون متناثرة بحجة تخدير الرأي العام بثقافة استهلاكية.
مثقّف المرحلة لم يعد يكترث لوطنه، ولمن هو داخل الوطن، فالوطن بالنسبة إليه محطة ووظيفة من الزعيم، وإرضاء رجال الطائفة، ووسيلة توصله إلى غاية آنيّة لا تخدم المجتمع وربما لا تخدم أقرب المقرّبين إليه.
ورغم ملاحظاتنا على ثقافة أيام زمان بكلّ تفاصيلها ومراحلها، إلا أن هاجس تلك المرحلة بغالبيتها كان يُعنى بتطوّر المجتمع، وحرية الفرد والبوح، والإيمان بالحراك الاجتماعي لكون المدني لم يكن معروفاً بأهميته ولفظته. لذلك علينا أن نعترف بأنّ دور المثقف اليوم اختلف كلّياً شكلاً ومضموناً.
ربما هذا الكلام لا يتحمّس له عدد من المثقفين بحجة أن هنالك بعض المعايير والمقاييس المرتبطة ببعض المثقفين تميّز هذا من ذاك، إلا أن العصر أكّد لنا من خلال التجارب الواقعية، وتحديداً ما حدث في سورية من حروب عالمية عليها، وكيف أن بعض مثقفي البلاط يهلّل لتدمير المدن العربية من بيروت إلى القاهرة وطرابلس الغرب، وتحديداً مدينة التاريخ حلب، من دون أن يقف على رمزية تلك المدينة في عبق الحضور الإنساني، وفي عمق الحضارات. فقط يهلّل لكونه موظفاً في مؤسسة تابعة لنظام يدور في مشاريع تجارية لا نهضوية، وبعيدة عن الديمقراطيات، ومن دون أن ننسى تجارب الحراك الشعبي والشوارعي ـ لن ندخل في تفاصيل ذاك الحراك، بل نسجّل غربة المثقف العربي عنه مهما كانت نوعيته وتسميته ـ العصر أكد أنه لا مقاييس، ولا معايير للمثقف الحقيقي، لكونها، وبكل بساطة تنبع من الناس، وبرؤية تصب في مصالح الناس والجماعة مهما قلّ العدد من حولها.
الثقافة لم تعد حكراً على مجموعة تقليدية، بل هي متاحة للجميع، ومنوّعة بعيداً عن القصيدة والرواية والقصة. من هنا، وكما هو حاصل، وجب الاعتراف بأنه ليس لدى مثقف اليوم الاستعداد لتحمّل المسؤولية في الصوت، والتميّز والحراك، ارتضى أن يقلد الحاكم من خلال اقتناء السيارة، وممارسة السلطة، والحصول على المال والمنزل بسرعة، والأخطر ميوله الجامح إلى الظهور الإعلامي، وهذه الأخيرة بيت القصيد، وتتطلب الكثير من النقاش والوقوف عندها.
في السابق، كان للمثقف الدور الريادي والطليعي يهابه الحاكم، لا بل كان محركاً وداعماً وبوقاً ودافعاً للثورات، والتغيير إلى الأفضل، والكفاح والانتفاضات الشعبية والمصيرية ضدّ الاحتلال والاستعمار والظلم. اليوم هو من انكفأ بعد صدمة مشروع الأحزاب، وخاب ظنّه من المشروع البشري بعد أن أصبح البشر على شكل الإنسان من دون الجوهر، ويستهلك إنسانيته مع الحيوان وليس مع شبيهه، والأخطر خوفه من المشروع الديني، وبفضل سياسة الإعلام الغربي الاستعماري الذي انبهر به زاد خوف مثقف المرحة من المشروع الديني، ولم يسعَ إلى محاورته بقدر ما انتقده، والسبب بغاية السذاجة أي أن المثقف تقوقع مع غرور وفوقية على الناس والمحيط ورجال الدين، وبالطبع لرجال الدين الحصة الكبرى في تقوقع المثقف، وغالبية رجال الدين سعوا وراء السلطة، والحكم والإعلام، وعنجهية إلغاء الآخر، ووقعوا في مرض المثقف بإرادتهم.
لم يعد الشاعر والكاتب هما المثقف الوحيد بل المزارع والمقاوم والإعلامي، والممثل، والطبيب هو المثقف في مجاله استعداداً للتعبير عن ما يجول في فكره ومعرفته، وهنا الطرح بوجود مثقف مقاوم ومثقف غير مقاوم وارد وضروري وحاسم، لأن المفهوم العام أن يكون المقاوم مثقفاً كي يحرك الثورة والعزة والإنسان في داخله، وهذه ميزة حقيقية لوقوع جدليتها في المفهوم العام. وحتى في المفهوم المادي نجدها فاعلة وتفضح المقاوم غير المثقف بقضاياه ومصيره، أما في المفهوم المعنوي بعد نجاح تجربة المقاوم لا تنجح مقولة: «مثقف مقاوم ومثقف غير مقاوم»، لأن المقاوم ومقاومته هما فعل واقعيّ وحيّ فرضا ثقافة من لحم ودم تشبه محيطها والأرض.
المرحلة تحتاج إلى مثقف عضوي، لا مثقفاً تكملة عدد لكونه ثرثاراً، وخبيراً في تركيب لغة الضاد في الغرام والعشق وكذبة الوطن. هذا المثقف صنيعة الفضائيات، والعلاقات العامة والسلطة، ومن حاشية الثراء السريع، وحينما يصل المثقف إلى ثقافة الإنسان بتعمّد وادّعاء، وبأنه يغني بحثه في ثقافة العمق في الروح والنفس وأناقة التعبير والشكل تلك تكون بمثابة «البندقة» إن صحّ التعبير، لأن ثقافة كهذه أصبحت قضايا كلّ مظلوم، والواجب أن تكون قضايا المثقف تلقائياً لأن الثقافة موروث إنساني حضاري لا تغيرات فيها بقدر عيشها مع الواقع بتفاصيله مهما تغيّر زمانه.
وحتى نبني وجهة نظرنا على أساس صلب، لا بدّ أن نحمل الكثير من المسؤولية في عدم تواصل بعض المثقفين المعاصرين مع المقاومة إلى القائمين على ثقافة المقاومة وإعلامها.
أقصد أن المقاومة رغم كل ما حققته من نجاحات عانت وتعاني من تراكمات الماضي حيث أثرت عليها، ولم تمكّنها بشكل كافٍ في إقناع المثقف المتقوقع، والخائف منها، وليس مثقف السلطة وأبواق البلاط فهؤلاء مع من يدفع أكثر، وللأسف أغفلت المقاومة الجانب الاجتماعي المرتبط بدور المثقف لكونها أخذت منه موقفاً مسبقاً، وأعاقت حركته لكون المثقف صاحب التجربة الحزبية والعقائدية خرج مهزوماً من معركة انتشاره، وضاقت به الهزائم حتى أفلس منهجياً، وخاف من الأفكار التي حملها، وأقفلت معه باب الحوار لاقتناعها أنه سلّم أوراق اعتماده، وهو بدوره انتظرها وانتظر مبادرة منها ولم يسعَ إليها، وهنا الخلل الأكبر، هو تاه في مشاكل الحياة، وهي تعيش نشوة ثقافتها الجديدة.
المقاومة قوة وجودية لإنسان يحترم الإنسان فيه. لذلك، على المثقف المعاصر أن يكون مقاوماً من خلال ابتعاده عن التحاقه بالسلطة حتى لو كانت هذه السلطة مقاومة، لأن السلطة تقنّن حركة المثقف، والمثقف لا يعرف التقنين وإن وقع فيه يتوه ويتشتّت، وممانعته تكمن في أن يرتبط بهموم الناس، وأحلامهم، وأوجاعهم، وآلامهم، وتطلّعاتهم، وإخراج الصمت منهم، وعليه معرفة التمييز بين الحق والباطل، وألّا يستسهل الشهرة الصوت القضية كما حال المقاومة وتجربتها اللبنانية التي نجحت وتفوّقت لكونها تشبه أناسها، ولم تأتِنا من فراغ وتصفية حسابات.