نظرة سعاده إلى الدين على ضوء الإسلام في رسالتيه 2

د. زهير فياض

رفض لأطروحات المفاضلة بين الرسالات السماوية

في مقدمة «الإسلام في رسالتيه» يقول سعاده: «إننا لا نصدّق أنّ مسلماً محمدياً واحداً مدركاً لحقيقة رسالة النبي العربي يقبل كلام رشيد الخوري الذي ظاهره تأييد للإسلام المحمدي وباطله هدم للعقائد الإسلامية الصحيحة.

اذ أنّ أول ما نطق به رشيد سليم الخوري المتظاهر بالإسلام المحمدي والكلام لسعاده – في مدح هذا الدين كان كفراً به وبآياته. اذ انه قال في بداية «حارضته» كما يسمّيها سعاده: «لما فضّلتُ الإسلام على المسيحية في خطابي العام الماضي الخ…» فأخذ نقطة الابتداء تفضيل الدين الإسلامي المحمدي على الدين الإسلامي المسيحي، وجعل هذه النقطة مدار كلامه فنطق بكلمة الكفر من حيث فتح فاه أو جرّ قلمه على القرطاس فحق عليه قول الآيات يقول سعاده – «انّ الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً. أولئك هم الكافرون حقاً واعتدنا للكافرين عذاباً مهيناً. والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفوراً رحيماً» من سورة النساء 150-152 . ومن سورة البقرة ليس البر أن تولّوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكنّ البرّ من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين الخ… ومن سورة النساء لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أُنزِلَ اليك وما أُنزِلَ من قبلِكْ الخ… 162 .

هذا نموذج للقراءة العقلانية التي أجراها سعاده لنصوص الدين في معرض ردّه على أطروحات التضليل الديني التي حاول الخوري أن يعمّمها إمعاناً في بث التفرقة بين المذاهب والأديان.

في مكانٍ آخر، يقول الخوري: «الانجيل كتاب روحاني يُعنى بالآخرة فحسب ولا يعلّم في هذه الدنيا غير الدروشة والزهد وقهر الجسد وحبس العقل في قفص من غباوة الاستسلام لما وراء المنظور وهو يقتل المواهب ويهيض الأجنحة ويعصب على العيون ويربط الفطرة بالسلاسل الثقيلة ويخنق الطموح فلا مجد عنده الا مجد الخضوع الأعمى للتعاليم السماوية كما بشر بها هو. لا بأس في شريعته أن تعيش عبداً رقيقاً مدى الحياة إلخ…» ويضيف: «لقد فسح الاسلام لمحبي الكسب وطالبي الثروة مجالاً لا حدّ له بقوله «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً» في حين جعلت المسيحية الفقر شرطاً أساسياً لدخول السماء عملاً بقولها للغني الذي طلب أن يرث الحياة الأبدية «بع كلّ أملاكك ووزّع ثمنها على الفقراء واتبعني»… فكان ردّ سعاده صارخاً على الخوري بقوله: «لا ننتظر أن يكون لرشيد سليم الخوري ضابطٌ من جهله، لأنّ الضابط يكون من العلم ولا يمكن أن يكون من الجهل. اذ أنّ هذا الحديث هو للإمام علي عليه السلام وهو ليس في مقام الشريعة الاسلامية وهناك فارق بين الشريعة وحديث الصحابة ، ومع هذا فقد قام الخوري بتشويه الحديث اذ انه لم يكمل السياق الذي جاء فيه، أيّ تكملة الحديث وبالذات «واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً»، فأخضع بهذا القول المادية إخضاعاً كلياً للروحية. فغرضُ السعي والكسب لم يعد للبقاء في المادية اللامحدودة، بل صار للوصول الى المستوى الروحاني الذي ذهب المسيح إليه رأساً لعدم حاجته الى إعداد الأساس المادي لأنّ هذا كان موجوداً بكثرة، بمعنى أننا نتحدّث عن مجتمع في درجة تطور اجتماعي وعمراني بمقاييس ذلك الزمان تختلف عن وضعية المجتمع في البيئة التي نزلت بها الرسالة المحمدية.

وفي «الإسلام في رسالتيه» نفسه، وتحت عنوان «بين الهوس والتدين» يقول سعاده: «رأينا مما أثبتناه في ما سبق أنّ القول في خلاف المسيحية والمحمدية وتفضيل هذه الرسالة على تلك ليس مجرد قول يقوله أحمق، بل اعتقادات شاعت في أوساط واسعة بين المحمدية لأنّ في هذه الأوساط تنتشر حركة هذا التفكير الرجعي الذي يغذيه عدد من المفكرين المحمديين الذين خلطوا الوطنية والقومية بالدين».

ويضيف سعاده اذا دقّقنا أكثر فأكثر في كلام «العروة الوثقى «المتعلق بغاية المذهب المسيحي وغاية المذهب المحمدي، ووقفنا على بعد تأويله عن الاتجاه الصحيح المؤيَّد بالشواهد، وعن الطريقة الاستقرائية التاريخية، على ما أوضحناه في الأبحاث الأخيرة المتقدّمة، تبيّن أنه كلام بني على روح الحزبية الدينية أكثر كثيراً مما بني على تدبّر القرآن والانجيل.

انّ القرآن نفسه يعدّ الانجيل كلاماً منزلاً. «وقولوا آمنا بالذي أنزل الينا وأنزل اليكم».

وفي مكان آخر يقول سعاده: «هذا ما يُظهِر أنّ الذين فهموا الدين فهماً أولياً في حالات نشأته يعتقدون أنه الصحيح الذي لا جدال فيه. وهذا أيضاً ما ذهب إليه إمامان كبيران كالسيد الأفغاني والشيخ محمد عبده، مع العلم أنهما كانا يحسبان من طلاب الإصلاح في الدين، وأنه كان لهما مناوئون في مقصدهما الإصلاحي الذي لم يبلغ ما بلغه كاتب آخر هو الكواكبي الذي كان من المؤسف أنّ صيته لم يذهب ذهاب صيتهما. ولا نريد التوسع في الشروح الآن ولا نعرض لتفاصيل مذاهب السنة والشيعة والمتصوفة وغيرها في ذلك، بل نذهب رأساً يضيف سعاده – الى اعتماد الأساس وهو القرآن كما اعتمدنا الانجيل أساساً في كلامنا على المسيحية، وإلى فهم عوامل نشأة الرسالة المحمدية وتطورها في بيئتها التي هي العربة، من غير الدخول في التفاصيل الثانوية وشروحها في المدارس الأربع: أبي حنيفة، مالك بن أنس، محمد بن ادريس الشافعي، أحمد بن حنبل».

ويطرح سعاده سؤالاً أساسياً متصلاً بحياة المجتمع وسلامته واستقراره وازدهاره وتقدمه: «الى أين يقودنا الاعتقاد بأنّ صحة الرسالة المحمدية هي في محاربة أهل الرسالات الأخرى حتى يدينوا بها أو يخضعوا للمسلمين المحمديين، وبأن المذهب المسيحي يعلم أتباعه الخضوع لكلّ سلطان أجنبي يحكمهم؟ أالى شيء آخر غير الانشقاق الداخلي وإفناء التعاليم الدينية السامية في قتال لا نهاية له.

وحكماً ستأتي النتائج الاجتماعية الوبيلة والكارثية التي يمكن جمعها في كلمتين: البغض والعداوة بين المسيحيين والمحمديين في الأمة الواحدة. وهذه العداوة يستغلها الأجنبي والصهيوني والنتيجة الأكيدة هي العبودية الحتمية التي يشترك المحمديون والمسيحيون في جريمة دفع بعضهم بعضاً اليها. وما هو السبب؟

الاعتقادات الفاسدة والاجتهادات المغرضة لها نتائج كارثية من الوجهة الاجتماعية – الدينية

السبب هو: الاعتقادات الفاسدة والاجتهادات المغرضة من الفريقين المبنية بدورها على اعتقادات دينية واجتهادات فقهية أو لاهوتية هي أيضاً لا موجب حتمي لها من الوجهة الاجتماعية الدينية.

اذاً، أردتُ من خلال عرض هذه الفقرات والاستشهادات من سعاده أنّ الوجهة القومية الاجتماعية هي التي دفعت سعاده الى تناول الموضوع بهذه الصراحة الكلية.

«لو تكاشفتم لما تراقبتم»، يقول سعاده: «اننا نقول لجميع السوريين، محمديين ومسيحيين: يجب عليكم أن تتكاشفوا فتعلم كلّ فئة ما تضمر لها الفئة الأخرى بكلّ ما فيه من جميل وقبيح. فاذا تكاشفتم فهو أول الطريق الى إصلاح حالكم وحلّ كلّ قضية يتطلب معرفة جميع أضلاعها والا كان حلاً فاسداً لا يثبت».

التوافق جوهري في المضمون

في معرض مقاربته العلمية للأغراض الأساسية للدين، في الاسلام المحمدي والاسلام المسيحي يرى سعاده توافقاً جوهرياً في المضمون واختلافات شكلية تعود الى اختلاف الظروف والبيئة وحال المجتمع في فلسطين التي نزلت فيها رسالة المسيح وبين العربة أيّ الصحراء التي نزلت فيها رسالة محمد.

يقوم سعاده بتصنيف المحمدية من حيث هي عقيدة وملة، فيقسمها الى قسمين:

الأول: هو المحمدية كدين. والثاني هو المحمدية كنظام اجتماعي ودولة، فالإسلام المحمدي من حيث هو دين يرمي الى أغراض أخيرة روحانية تتعلق بالمسائل الإيمانية الأساسية:

1 ـ احلال الاعتقاد بالله الواحد الأحد محلّ عبادة الأصنام.

2 ـ فرض عمل الخير وتجنّب الشرّ.

3 ـ تقرير خلود النفس والثواب والعقاب.

على هذه الأغراض قام الإسلام المحمدي كدين، فهي أساس دعوة محمد وصلبها، وما تبقى فهو الأمور الشكلية التي تُتخذ وسائل لبلوغ هذه الأغراض، وهي أيضاً جوهرية، ولكن أهميتها نسبية من الوجهة الدينية البحت.

ولكي نقتنع بأنّ هذه الأغراض لا تتمّ الا بواسطة الرسالة المحمدية وحدها يجب أن نقتنع بأنّ المحمدية هي التي جاءت بها وأنها هي أساسها، فهل نتحقق من ذلك من الوجهة التاريخية؟

الإيمان بالله الواحد غير المنظور فكرة سورية قديمة جداً

انّ الغوص في مراحل تطوّر الفكر الديني وخاصة في بلادنا السورية فنرى أنّ الايمان بالله الواحد غير المنظور، الذي يرى كلّ شيء والقادر على كلّ شيء، هي فكرة سورية قديمة جداً مسخها اليهود وشوّهوا مضامينها فجعلوا من الله بمفهومه المسكوني العالمي جعلوا منه في عقولهم طوطماً أو صنماً حياً خاصاً بالقبيلة الاسرائيلية يحارب معهم في حروبهم، ويحقق لهم أهدافهم الذاتية القبلية ويميّزهم عن غيرهم من البشر شعب الله المختار ، ففكرتهم عن «الله» تشابه افكار الجماعات الأولية في عبادتها للأصنام، فكانت عبادتهم له واتصالهم به أشبه بعبادة الأصنام والاتصال بها، فكانوا يشاورونه في حروبهم كما كان الوثنيون يشاورون آلهتهم في حروبهم وكأنّ الله خاصاً بهم.

وكذلك أخذ اليهود منظومة القيم والأخلاق والحق والباطل والخير والشر ونسبوها اليهم، أيّ الحق هو حق اليهود، والخير هو خير اليهود، والله هو اله اليهود، وطبقوا هذا النظرية على مسألة الثواب والعقاب، والجنة والنار، أيّ مسخوا الفكرة من أصلها.

أما في المسيحية فهناك شبه تطابق كامل مع المحمدية من حيث الأغراض الدينية في الرسالتين، وفي كلّ المسائل الإيمانية الأساسية.

إذاً أين الاختلاف؟

الاختلاف هو في مسألة الدولة وهذا يعود الى اختلاف الظروف والبيئة والعقلية التي كانت سائدة في كلا البيئتين التي نزلت فيهما الدعوتان.

البية العربية الصحراء القبلية العشائرية عبادة الأصنام وأد البنات- حياة بدوية كاملة قائمة على الحروب والغنم في الحروب وما شاكل… في حين أنّ دعوة السيد المسيح يسوع الناصري نزلت في فلسطين في بيئة متمدّنة بمقاييس ذلك الزمان، فيها تشريع وفيها إدارة وفيها قانون وفيها تنظيم، ولم تكن بحاجة للتشريع انما كانت بحاجة لترقية روحية عظيمة، إلى ارتقاء نفسي يرفع من المستوى الروحي للإنسان، لذا جاءت تعاليم يسوع الناصري أقرب الى التعليم المناقبي منه الى الأمر والنهي.

الدين كان ولا يزال وفي سياقات تطوّره التاريخي المصدر الأساس لجزء أساسي من منظومة القيم التي نتغنى بها، هذه القراءة المتقدمة عند سعاده للدين في «الاسلام في رسالتيه» هدفَ منه الى تزخيم الدور الحقيقي للدين في ما هو نظرة الى الله والخلق والحياة بما فيها الإنسان، والجانب الآخر هو المتصل بالإصلاح الاجتماعي وهو الأساس، أيّ رفد المجتمع الإنساني بمنظومة القيم والأخلاق والمناقب التي تشكل اذا صحّ التعبير «البنية التحتية الروحية» لبناء الإنسان الروحي، كيف لا، والدين كان ولا يزال وفي سياقات تطوره التاريخي المصدر الأساس لجزء أساسي من منظومة القيم التي نتغنى بها، والأساس النظري التي استقت القوانين الوضعية روحها.

يقول سعاده: «الدين وجد لتشريف الحياة ولم توجد الحياة لتشريف الدين» ويقول في مكان آخر: «انّ اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض»، وأننا «كلنا مسلمون لرب العالمين منا من أسلم لله بالقرأن ومنا من أسلم لله بالانجيل ومنا من اسلم لله بالحكمة… وليس لنا من عدو يقاتلنا في أرضنا وحقنا وديننا إلا اليهود، ونضيف اليوم والمتهودون… وفي هذا لقاءٌ جوهري مع الآية القرآنية: «انّ أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا اليهود وأقربهم النصارى إلخ…

هذه هي الخطوط العريضة للإسلام في رسالتيه، وفي مضمون النظرة لدى سعاده الى الدين بتقاطعاته مع المسألة الاجتماعية.

عميد في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى