مرويّات تاريخيّة

لبيب ناصيف

عرف لبنان في أواسط القرن الماضي عدداً جيداً من الذين احترفوا لعبة المصارعة الحرة، تميز بينهم الراحلون إدمون الزعني، بطرس غانم، نجيب نهرا، خليل أبو خليل، أسعد سرور، الشقيقان جان وأندره سعاده، والرفيق جورج ديراني.

كانت الحفلات تقام وسط حضور جماهيري كبير في بيروت ومدن لبنانية أخرى، ويشترك فيها أبطال مصارعة، لبنانيون، عرب، وأجانب.

كنت مديراً لمديرية المصيطبة في الفترة 1960، 1961 وكان الرفيق جورج مدرباً لها.

هذا العملاق، كان يقف أمام من، إذا نفخ بإتجاهه رماه عشرات الأمتار، يتلقى منه الأوامر، ويطيع. يفقه الحزب جيداً، مؤمن بأفكاره، ونهجه وغايته. يذيع تعاليمه في محيطه في المصيطبة، وفي مخيم مار الياس، فهو، ابن الجنوب السوري، كان على تماس مع النازحين في المخيم وخارجه، له سطوته، والكثير من المؤيدين.

الى جانبه شقيقاه جميل وجمال. يشاركانه المصارعة الحرة، إنما بأوزان خفيفة، والعقيدة السورية القومية الاجتماعية وإن لم ينتميا. كذلك شقيقته وداد التي اقترنت من المواطن فؤاد بسكنتاوي.

صيف 1958 التقيته في مخيم الحزب في ضهور الشوير، كنت التحقت به، كما الرفيق جورج والمئات من القوميين الاجتماعيين.

تعرفت فيه إلى الأمين الشهيد بشير عبيد، الأمين عبد الوهاب تركماني، وإلى كثيرين من الرفقاء ممن كانوا يخضعون للتدريب قبل انتقالهم الى شملان او الى جبهات أخرى إذا اقتضت الحاجة.

بعد إنتهاء الحوادث واصل الرفيق جورج نشاطه والتزامه… حتى إذا حلّ عام 1960 نفذ قرار الحزب بأن يلتحق مرافقاً للأمين إنعام رعد أثناء خوضه للمعركة الانتخابية للمقعد الكاثوليكي في الشوف بعد اغتيال النائب نعيم مغبغب، وفي مواجهة مرشح الحزب التقدمي الاشتراكي سالم عبد النور.

لم يكن أمراً هيّناً أن يتحدى الحزب، بعد أقل من عامين على انتهاء حوادث 1958، الحضور الجنبلاطي « في قلب الشوف»، فيخوض معركة شرسة كان سينتصر فيها لولا المال، والخوف الذي استقر في ذاكرة عدد كبير من أبناء الشوف من جراء الحوادث الأليمة.

كان الرفيق جورج ديراني، الى امتلاكه جبلاً من العضلات، يتمتع بقلب فولاذي، وجرأة نادرة. فهو لم يكن يهاب تحدي مصارعين عالميين، ولا في مواجهة أجهزة الأمن في ظروف صعبة عرفها الحزب بعد العام 1958، وأكثر، بعد محاولته الانقلابية الفاشلة. أذكره جيداً وراء قضبان سجن جديدة المتن. كما يذكر ذلك رفقاء عرفوه ونشطوا حزبياً في تلك المرحلة، بينهم الرفقاء كابي وسامي برباري، رامز سري الدين، وطوني نصر. اذ اعتقل أثناء جلبه 6 مسدسات Bereta من إيطاليا لاغراض حزبية في حينه، وأمضى محكوميته في سجن الجديدة.

قال لي: « لو لم أكن في السجن لكنت شاركت في الثورة الإنقلابية وربما كنت سقطت شهيداً…». وإن لم يحصل ذلك في الثورة الانقلابية فقد اغتيل الرفيق جورج ديراني أمام مدخل مخيم مار الياس بطينا، أثناء الحرب اللبنانية وفي أشد الصراعات الفلسطينية الفلسطينية، والفلسطينية حركة أمل. ومعه سقط اغتيالاً المواطن جورج شامي أبو فوزي من سكان مخيم مار الياس.

تفيد شقيقة زوجته، الفاضلة لوريس ملكي مراد، بأن الرفيق جورج كان يساعد كل ذي حاجة. كان يعطف على رجل مقعد، يزوره دائماً ويقدم إليه ما يقدر عليه. قبل اغتياله بساعة كان يزور هذا الرجل المقعد، وإذ عاد الى المخيم تمّ اغتياله.

تحدث الاعلامي المعروف جهاد الخازن في إحدى مقالاته في «الحياة» عن المصارع جورج ديراني، قال:

« تعود معرفتي الشخصية بالقدس الى زيارة يتيمة لها، بعد أن كبرت، في أواخر 1966، وكانت لا تزال بأيدي العرب. كنت اشتريت سيارة جديدة في بيروت، واتفقت مع صديق أن نذهب بها الى القدس، مروراً بدمشق وعمان، لرؤية الزوار الفلسطينيين الذبن كانوا يعبرون بوابة مندلبوم الى القطاع العربي لمقابلة أقاربهم في عيدي الميلاد ورأس السنة. ولم يكن لي أو للصديق أهل أو أصدقاء بين الوافدين، فوقفنا نتفرج على مشاهد اختلط فيها الحزن بالفرح. وعلا صراخ، وجدنا أن سببه جورج ديراني، وهو مصارع فلسطيني مشهور في لبنان، عرفه القادمون من الأراضي المحتلة، فقد كان التلفزيون في بدايته، وحملوه على الأعناق وطافوا به وهم يهزجون ويلمسون «البطل» في زمن عزّ فيه الأبطال».

هوامش

اقترن الرفيق جورج من السيدة روز ملكي مراد، التي فارقت الحياة في السويد.

ورزق منها: إيلي، الرفيق يوسف، منى المتأهلة من الياس عقيقي، بسام، وغسان.

أشقاؤه: المرحوم جميل، جمال، وداد المتأهلة من فؤاد بسكنتاوي وافته المنية قبل أيام ، وناديا المتأهلة من ابراهيم عقل.

اغتيل عام 1984.

محمود مصطفى شبارو

كلما صدف أن شاهدت حلقة من مسلسلsplash الذي كانت تعرضه إحدى محطات التلفزيون المحلية، ومحوره مباريات في الغطس على المياه، يشارك فيها هواة ومحترفون، تعود بي الذاكرة الى رفيق مميز كان بطل لبنان في القفز، مشاركاً في دورات على مستوى العالم العربي، وبلدان البحر المتوسط، متوجاً بطلاً أكثر من مرة، متمتعاً بجسم رياضي كأنه خلق خصيصاً للسباحة ولبطولات الغطس، هو الرفيق محمود شبارو.

وكلما التقيت الرفيق الياس عوض، لا بد من أن يكون ثالثنا الرفيق محمود، أذكره، أو يتذكره الرفيق الياس، وقد كان صديقاً له، في العمل، في الحزب وفي الحياة. فالرفيق محمود لم يكن فقط بطلاً في القفز الى الماء، إنما كان قومياً اجتماعياً تميز بالجرأة، ملبياً لكل عمل حزبي، مواجهاً خصوم الحزب في شركة طيران الشرق الأوسط حيث كان يعمل، وفي الطريق الجديدة، الحي الذي ولد فيه وترعرع، كما العامل بوحي النهضة لنقل مفاهيمها الى المواطنين من أصدقائه.

وافته المنية شاباً مليئاً بالصحة والعافية إثر نوبة قلبية حادة، فشيعه رفقاؤه في آذار 1962 من منزله في الطريق الجديدة سيراً على الأقدام، يحملون أكاليل الورد الى مدافن الباشورة حيث ألقى الرفيق رؤوف أبو زكي كلمة مناسبة، وأدى له الرفقاء تحية الوداع، رغم الوضع الأمني السائد في تلك الفترة السوداء التي أعقبت الثورة الانقلابية أواخر 1961.

لو قدر للرفيق محمود شبارو أن يبقى على قيد الحياة لشهدت الطريق الجديدة حضوراً أفضل للحزب، ليس لأن عائلته كبيرة ولها شأنها، إنما لأنه كان مثالياً في تعاطيه، وقومياً اجتماعياً في التزامه.

رغم مرور خمسين عاماً على وفاته، فإن الرفيق محمود شبارو ما زال ماثلاً بإطلالته اليافعة، وبصلابة إيمانه، وبكل ما تميز به من فضائل الالتزام. وما زلت أتذكره كيف كان في المناسبات الحزبية يصفق على الحائط فيما نحن نصفق بأيادينا وقلوبنا. ولن أنسى تلك اللحظة عندما اتصلت بمنزله هاتفياً، فاستمعت الى صراخ شقيقته، وقد طلبتُ منها أن أتكلم مع محمود: محمود.. محمود مات، فوقعت لا أعي على شيء، إلاّ على دموع تتساقط وحشرجات صوت، شاركتني بها والدتي التي كانت تحبه كثيراً وترتاح الى أخلاقه.

ولأن الرفيق الياس عوض هو اكثر من رافق الرفيق محمود شبارو وكان له «أخاً لم تلده أمه» فقد رغبنا إليه أن يسجل الشهادة الآتية:

طويل القامة، عريض المنكبين، أسمر السحنة، ازرق العينين، يدخل علينا في دائرة الهندسة في طيران الشرق الأوسط موظفاً جديداً وعلامات الوثوق بالنفس ظاهرة للعيان. اختصاصه الكهرباء الميكانيكية. سرعان ما فرض نفسه بتهذيبه وتمكنه من خبايا الأمور الفنية وقلة كلامه، فأسر الجميع.

انسجم مع الجميع، إنما سطحياً، ولم يفته جو الالتزام والتلاحم السائد بيني وبين الرفيقين محمد ديراني ـ من قصرنبا بعلبك وجورج جدي من الجنوب السوري ومن سكان حدث بيروت فما هذا السر الذي يربط بين الفلسطيني واللبناني ومن ثلاث طوائف مختلفة، ولم تفته الهمسات والأحاديث الجانبية بيننا وبين رفقاء من أقسام أخرى في الشركة وبينهم: منير زينون، غازي العقل، عبد بشناتي، اسكندر ملكون 1 وغيرهم.

عندما دخل علينا الرفيق انطون ابو ديب 2 موظفاً جديداً، ذهل محمود من السرعة التي انضم فيها الى شلتنا. ولم يأخذ الوقت الطويل وهو حاد الذكاء حتى اكتشف انتماءنا الى الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي هو، بحسب قناعات الرفيق محمود آنذاك، عدو العرب والعروبة. هنا قرر محمود، بحسب ما اقرّ لي ان يتقرب منا قارئاً يومياً جريدة «البناء» ومنها انتقل إلى الاطلاع على مبادئ الحزب: الى المحاضرات العشر وغيرها. ثم بدأ يحضر الحلقات الإذاعية. عندما فاتحته بخصوص الانتماء، قال لي: أمهلني بعض الوقت لأن هناك مادة في القسم لا أستطيع أن أنفذها في الوقت الحاضر، وهي: «وأن أجعله شعاراً لبيتي». فقلت له يمكن أن تنفذ هذه المادة عندما يصبح لديك بيتك الخاص، كما يمكنك ان تحصل على قرار بالانتماء سري. عندها انتفض ثائراً: «أنا محمود شبارو بدي كون سري وجبان»، وهنا أذهلني عندما ردّد القسم كاملاً من دون أغلاط. وتابع: «أنا ما بخاف من حدا وأنا قومي حتى الشهادة»، ولكن الوقت لم يمهله حتى الشهادة، فقضى عن 24 عاماً. كان في العشرين من عمره عندما أقسم على يد الرفيق نقولا حلاق 3 الذي كان في الأسر، عند وفاة الرفيق محمود فلم نشأ أن نخبره، إنما عند خروجه من الأسر وتدفق الأهل والمقرّبون للتهنئة، ورغم ضخامة الجموع افتقد محمود صارخاً: أين البطل. وإذ علم، وقع عليه الخبر كالصاعقة، وانقلب فرحه بالخروج من الأسر، الى ما يشبه الكارثة.

الى كونه بطلاً في القفز الى الماء، وحيازته ميداليات في الدورة العربية الأولى في المغرب، ثم في بيروت، كان من أمهر راكبي الدراجات النارية، وقد عمل على تدريبنا، الرفيق ابرهيم غطاس 4 ورفيق من عاليه لم أعد أذكر اسمه، وأنا، على قيادة الدراجات النارية، فنكون في طليعة موكب رئيس الحزب الأمين أسد الأشقر في يوم الحشد الذي أقيم في ساقية الجنزير في 2 آذار 1958 مراجعة النبذة المعممة بتاريخ 22/07/2013 .

ويختتم الرفيق عوض شهادته عن الرفيق البطل محمود شبارو بالقول:

«ترك الفراق المبكر للرفيق محمود في قلبي جرحاً بليغاً لم يندمل بعد. كان الأحباء من معارفنا، من شدة تعلقي بمحمود وتعلقه بي يدعونني «أبو محمود» ويدعونه «أبو الياس»، حتى أني أسميت ابني الوحيد: مروان محمود».

أوردت جريدة «لسان الحال» في عددها بتاريخ 12 آذار 1963 الخبر الآتي:

انتقل أمس الى رحمته تعالى المأسوف على شبابه محمود شبارو بطل لبنان في القفز الى الماء وذلك إثر نوبة قلبية.

وسيحتفل بالصلاة على جثمانه ظهر اليوم الثلاثاء في جامع البسطة التحتا ثم يوارى في الثرى في جبانة الباشورة.

تقبل التعازي في منزل عمه أحمد شبارو، شارع الرواس، الساعة العاشرة والنصف.

فللفقيد الرحمة ولأهله جميل الصبر والعزاء.

هوامش

1. منير زينون، من رومية غازي العقل، من المحيدثة بكفيا. عبد بشناتي من بيروت وقد كتبت عنه نبذة تعرف عن حياته الحزبية النضالية، لمن يرغب في الاطلاع الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info باسم عبد الرحمن بشناتي. اسكندر ملكون من الشياح، نشط حزبياً في كل مكان تواجد فيه. رحل منذ نيّف وخمس سنوات.

2. من زغرتا، ما زال ناشطاً ومتولياً مسؤوليات حزبية.

3. من الجنوب السوري، تولى مسؤوليات حزبية عديدة في حمص، إذ نزح إليها، في الحدث-بيروت، في الإمارات، وفي بوسطن حيث أمضى أيامه الاخيرة ناموساً لمنفذية الشرق الأميركي.

شارك في الثورة الانقلابية وأسر لمدة أربع سنوات.

4. من مشغرة. شارك في الثورة الانقلابية، إنما أمكنه مغادرة لبنان، مثل الأمين فؤاد غزال ووصلا إلى سيدني حيث يقيمان فيها.

رئيس لجنة تاريخ الحزب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى