«أبو صيّاح» ذاكرة شفوية لا تُنسى
النمسا ـ طلال مرتضى
حين تدنو ساعة الرحيل لبليبها، يعني أنها أولمت لهذا الرحيل كلّ ممكناته، فلم يعد من مناص للاعتذار أو التمهّل.
جلّ ما يستطيع المرء وعلى عجالة من هوج موكب الجلجلة، ترك وصايا مثل جرعة أوكسجين مفتعلة طيّ النزق الأخير.
عندما يركب المرء عتلة الوداع، يتأبط دفاتر أيامه السالفة، يوزّع عطر الذكريات الجميلة على ألسنة مريديه، بالتأكيد لن يعترض أحد. لا لشيء، فقط لأن موعد الرحيل قد آن.
حين تودّ الرحيل… اِرحل!
لا يحقّ لأحد أن يسدّ باب غيابك، إلا ذكرياتك التي أغرقتها دموع محبّيك وأهلك. لكن جلّ ما يتمنّاه المسافر إلى عالم الأبدية، رحيلاً مشرّفاً يليق به، فما بالكم إن كان هذا الرحيل بحجم وطن؟!
من منّا، كبيراً أم صغيراً، سورياً أو عربياً، لا يستذكر «الزكرت أبا صيّاح»، ذاك الذي آثر الرحيل بعينين مفتوحتين على وجع البلاد؟ نعم، رحل القبضاي «أبو صيّاح» ولسان حاله لا ينفك عن الترديد: ««سورية الله حاميها… شعبها بالروح بيفيديها».
مات «عكيد» الحارات العربية وذاكرتها، غادر بهدوء وهو قابض على هويته السورية كالقابض على الجمر، بعد أن كشّرت ضواري العالم أنيابها لنهشها، لكن هيهات أن يخفتوا لبرهة هذا الحضور، وأيّما حضور بوزن الهوية التي حملها فنان الشعب السوري، رفيق سبيعي «أبو صيّاح»، الهوية التي ما فتئنا نردّدها كلازمة لأغنياتنا عندما كنا نعبّ شوارع المدينة القديمة المرصوفة بقصص البطولات، والمكتوبة بالحبر الأحمر القاني مروراً من باب الجابية الدمشقي نحو مكتب عنبر وصولاً إلى مقهى النوفرة، والذي هو بالنسبة إلينا مفاز استراحة مقاتل بين شوطي مبارزة بين فارسين عتيقين بحجم الحجارة الدمشيقة، يقطع رِتم هرجها، صوت «كسرية» تردح على حجارة الشارع نغماً مسموعاً، مثل إيقاع مغنّى، لتبدأ التحايا بالتتالي: «الله محيي العكيد أبو صياح».
« دخيل الله اللي خلق هالشوارب قبضاي».
«عليم الله نوّرت النوفرة».
ثمّ يأتي صوت صاحب القهوة من الداخل مدوّياً: «أركيلة الزعيم يا ولد بسرعة».
تلك هي المرّة الأولى حين قابلت الرجل، على باب النوفرة، لم أزل أذكر حجم الحبّات الكبيرة للسبّحة المزركشة التي كان يسبّح بها، حين جال بنظره مثل صقر متأهّب على رواد المقهى، قبل أن يستقرّ على طاولته، بعد أن فتل شاربه المعقوف قائلاً كلمة واحدة لا سواها بنَفَس شاميّ بحت: «أيوووا»!
ماذا نقول للموت، غير كلمات العتب، بالطبع كلّ هذا لا ينفع، فـ«أبو صيّاح» غادر في الأمس بعد أن وضع الحبل على القارب، وليس بالإمكان أكثر مما كان، غادر وهو يردّد، كي لا ينسى، وكي لا ننسى: «أنا سوري من أرض الشام… وعطر الياسمين الفوّاح.
مهما درت وشفت بلاد… غير بحضنا ما برتاح».
لم يصمت أو يستكين لبرهة واحدة على مرّ 86 سنة، كيف يصمت وهو حارس الحارة الدمشقي وآخر «عضواتها»، ولن يصمت أو يكمّمه الموت، سيبقى الشوكة التي تدشّ في أذنه ليلاً نهاراً، كلما هجع أو سجع، سوف يرعبه ذاك الفتى الشامي القادم من حكايات الأوابد والمواويل:
«شرم برم كعب الفنجان».
لعله غادرنا في الأمس جسداً، وتلك ثيمة الأجساد مآلها الفناء، لكنه الحاضر كذاكرة شفوية سورية أصيلة، تدعو إلى المفخرة: «يا ولد لفّلك شال… وتعلّم شغل الرجال».
«أبو صيّاح» الذي ركب موج الغياب، غادر توّاً… لم تزل كسريته تدشّ شارع النوفرة، وقفته كطود سوريّ، وشارب معقوف، وسبّحة بحبّات كبيرة، سكت عن الكلام المباح بعد أختم المقال بـ: «أيووواا»!