الأسرلات الساقطة في سورية

نضال القادري

عادت حلب إلى قلبها. ولا زال قلبي يُحبّها أكثر من أي وقت سيمضي. أمضي إلى ساحات الصراع وجبهات المقاومة معصوماً بها، ولا خطيئة أحملها إلا اشتهائي لكل زاوية تزرع في القلب شجرة، أو تُشعل طاقة للدفء الضائع على أضرحة الشهداء، وتُلهب شفاء الجرحى في بحيرة الإدمان. حلب تحاكي تاريخها أكثر من أي موت سيأتي. شوقها تناثر به للنصر، وأغلق به أبوابها عند أسئلة الرخام. ولا مفرّ من الانتصار. أتذكّر حلب العائدة إلى وطنها، متلبّساً بإيماني بها، وبالشهداء يرتفعون فوق حاراتها زوابعَ تتهامس مع كلّ رئة تغري شهيتنا بالصراخ نحو الحياة، لتسقط الكثير عن وجعنا الذي لا تحمله شجرة أو صديق، وتتحامل عليه كلّ ريح.

التاريخ أزاح عن حلب أهوال المشاريع المستعارة. ودفن العمالة الدولية وأذنابها. قال هتلر ذات يوم: «إنّ أحقر الأشخاص الذين قابلتهم في حياتي هم الذين ساعدوني في احتلال أوطانهم». لقد كان شديد الكره لرؤية ومصافحة الجواسيس الذين خانوا أوطانهم، وأمدّوه بالقوة لاحتلالها. ونحن السوريين، شهدنا أحقر النماذج الفاقعة من العمالات والخيانات، وتنسيقيات «الأسرلات» الشرسة المدمّرة. لكن الأوطان تنتصر بالأقوياء في نفوسهم. إنّ أحد نماذج «الأسرلة» هي الراديكاليات الإسلاموية الهدامة التي استباحت ثقافات الجماعات المتنوعة الحضارية. هذا النموذج الفاسد له مُفتوه وحركته وسيرورته التاريخية داخل «الإسلام» وعلى هامشه وخلال انتشاره. إنّ التخاذل الرسمي والديني عن التصدّي له هو محاولة لمجاراته وتأمين بيئة حاضنة ومولدة لشذوذه. لهم إسلامهم العفن، ولنا الساحات الحضارية المترقية، ولا عقل لهذا «الإسلام» المتطرّف سوى الحوار بالبراميل المباركة. إنّ إسلامهم الفاشي أحرق كتب ابن رشد والأصفهاني والفارابي والرازي والكندي. وكان ابن سينا في عيونهم إمام الملحدين. إسلامهم الفاشي جعل الرّازي يستقرّ كافراً بكلّ المذاهب. وأرغم «التّوحيدي» على أن يحرق كتبه بنفسه بسبب القهر واليأس من رجالات الدّين. إسلامهم الفاشي جعل المعرّي يفرض السّجن على نفسه. إسلامهم الفاشي قتل الحلاج وابن حيان والسهروردي. وجعل «إخوان الصّفاء» لا يذكرون أسماءهم بسبب الخوف من إهدار رجالات الفاشية الدّينية دماءهم!

حالياً في المحرقة السورية تبرز نماذج «الأسرلات» من الفصائل المسلحة الموقعة على اتفاق وقف إطلاق النار، هي: «فيلق الشام» تضم 19 فصيلاً، والعدد الإجمالي لمقاتليه هو 4 آلاف إرهابي. و»أحرار الشام» تضم 80 فصيلاً، والعدد الإجمالي لمقاتليها هو 16 ألف إرهابي. و»جيش الإسلام» يضم 64 فصيلاً، والعدد الإجمالي لمقاتليه هو 12 ألف إرهابي. و»جيش المجاهدين» يضم 13 فصيلاً، والعدد الإجمالي لمقاتليه هو 8 آلاف إرهابي. و»جيش إدلب» يضمّ 3 فصائل، والعدد الإجمالي لمقاتليه هو 6 آلاف إرهابي. و»الجبهة الشامية» تضمّ 5 فصائل، والعدد الإجمالي لمقاتليها هو 3 آلاف إرهابي. هناك أكثر من 50 ألفاً من المقاتلين الإسلامويين الموقعين على الاتفاق مع السلطات السورية في أكبر خدعة لالتقاط أنفاسهم والهروب من الموت مع قدوم فصل الشتاء، وسط عجز الدول الراعية لإرهابهم على تغطيتهم لوجستياً.

إنّ إسلامنا الحضاري هو النوعي المتنوّر المتعدّد العلماني العقلاني. أما إسلامكم الساقط الطاعن في الجهل والتردّي والتخلّف لن يُكتب له إلا الزوال والرجم والإبادة. إنّ الإسلام الذي تأكلون من معلفه يتخطّى بأشواط خطيرة إسلام «الغزالي» الذي كفّر الفلاسفة كافة، وإسلام «ابن القيّم» وإسلام «ابن الجوزي» وإسلام «ابن تيمية» وإسلام «الشافعي»، وكلّهم أفتى بتكفير وهدر دم الذي يمتهن علوم العقل، وعلوم الطبيعة والكيمياء والفلسفة. إسلامكم الفاشي تخطّى تقطيع أوصال «ابن المقفع» وتعليق رأس «أحمد بن نصر»، والدوران به في الأزقة كما تفعل داعش وتنظيم القاعدة وجبهة النصرة. إسلامكم الفاشي تخطى خنق لسان «الدين بن الخطيب» وإحراق جثته. إسلامكم الفاشي تخطّى قتل «الطبري» صاحب أشهر كتاب تفسير للقرآن الذي اتهموه بالكفر والإلحاد لأنه اختلف مع «ابن حنبل».

بكل بساطة، فشلت «البرندات» الفاشية الفاشلة في تقديم نماذج ديمقراطية حتى في قرية سورية واحدة. وستُدعس تحت أقدام المؤسسات الرسمية كلُّ الأفكار التي استثمرت في معاناة السوريين. وسترتدّ جزمات الاستعمار التي تغار في كلّ ميادين الحياة من السوريين وتاريخهم الضارب في الأصالة المتحضرة وفي جغرافية التمدّن. إنّ شهية الاحتلال وأدواته الرخيصة على قتل أساليب الحياة قاربت نهايتها. سورية تنتصر، وقد أحرقت مشاريع الفاشيين وردّت ضلالهم. خفتت اليوم صيحات الشجب والحسرة على سقوط حلب. وحلب ما سقطت، هي نجحت في العودة إلى قلب الوطن، كاسرة كلّ الأحلام الآتية من عواصم الزجاج المتحجّر، وبانت مكشوفة فصول المؤامرة على الشعب.

لقد تسجل عبر التاريخ أنّ روسيا قد أغرقت نابليون بونابرت باتساع جغرافيتها وغموضها. كانت فخاً ناجحاً في أسباب اندحاره. هي الأخرى، كانت سبباً في نهاية هتلر العسكرية. لقد أثبت الشعب الروسي المدمن على تحمّل جرعات المعاناة الهائلة أنه أكثر قدرة من جيش نابليون، وأقوى من جيش هتلر في تحمّل أكثر صنوف الحرمان. الجيش الروسي أوقف زحف نابليون نحو موسكو، وتمّ إحراق أكثر من نصف مساحتها، وعندها تمّ تكبيده خسارات فادحة في التسليح والإمداد والتموين جعله يطلق صرخته المهزومة لتتأكد عزيمة الشعب الروسي على الانتصار. كذلك كانت حلب.

كثيراً كرهت حلب في عدل «الله» الموت. هي ابنة سورية التي تحبّ الحياة. لم تبلع إرادة السوريين مقولة إن أوحى «الله» إلى بعض العرب أنهم «خير أمة أخرجت للناس»! فهل يكون في العدل أن تحبّذ جزيرة العرب الجهاد في سبيل «الله» بحزّ رقاب السوريين، وألا تقوى على أرض فلسطين سوى في مجاراة «شعب الله المختار»؟

ألا أيتها الوحوش العربية، نحن نحب الحياة، والشعب السوري لن ينتسب إلى هذا العار.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى