المطران المقاوم… بصمة الفدائيين
جهاد أيوب
منذ بزوغ الفجر كنا نتداول اسمه بفخر ونحن صغار…
منذ تفتح زهور الأرجوان كنا نسمع عنه في مجالس الكبار من أهالينا…
منذ عرفنا أنّ للبندقية كرامة قيل لنا هذا هو رجل الدين المقاوم، فرسمنا الفدائي المطران هيلاريون كبوجي!
أخذنا نرسمه ممتطياً الجواد العربي الأصيل، لوّنا معطفه بالأحمر ورايته بالأبيض، لم ندرك كلّ التفاصيل التي يتمتع بها حتى وقعنا في الظلم، وخيّم على جبالنا وهضابنا وسهولنا وجع الاحتلال، وكان قرار الدفاع عن أوراق الشجر، وشاهدنا شبابنا يعملون في الليل متصالحين مع الشمس على تدفئة أغصان العمر، حينها أدركنا قيمة كلّ من كان مقاوماً، وكلً من يؤمن بالدفاع عن الأرض، فكانت لوحة كبوجي حاضرة بقوة، ومكتملة المعالم.
في رحيل المنفي عن روحه مطران القدس المناضل الإنساني، والثائر العربي الفدائي الفلسطيني السوري اللبناني هيلاريون كبوجي يعني بداية جديدة لفتح صفحة الجهاد المفروض والمطلوب ضدّ الظالم، وليست نهاية مرحلة.
ولد في حلب، وهذه حلب تحرّرت قبل رحيله بأيام، انتصرت على أحقاد الجاهلين، وتفوّقت على الأيادي المجرمة، والأفكار المظلمة، حلب تحرّرت من الطغاة، ومن أنجاس احتلوا فلسطين التي حملها كبوجي في أعماقه، وسجن فيها معنوياً وجسدياً، تحرّر من كلّّ القيود وظلّ حبيساً في فلسطين، كانت رايته وقضيته حتى في الفاتيكان التي نفي إليها، ومات منفياً عن فلسطين لأكثر من أربعين عاماً.
كرّس نشاط عمره من أجل فلسطين وكلّ دولة عربية مقاومة، ولم يهتمّ للعمر الماضي بقدر اهتمامه لعمر المثابرة من أجل فلسطين.
قرّر خوض العودة عبر البحر لكسر الحصار على غزة
في شباط/ فبراير 2009، وفي سفينة «مرمرة» – أسطول الحرية من اسطنبول – في ايار/ مايو 2010، ولم يوفق لكنه تعبط عبق فلسطين التي سكنته حتى الأعماق وسكنها حتى الجراح.
التقيناه في بيروت الشامخة رغم يد الغدر، ورغم تعريتها من اعلامها ومقاومتها لكنها بلحظات تنتفض لتعود إلى ذاتها مهما حاولوا تغيير ملامحها، التقيناه فكان حقيقة ولم يكن الكذبة، نظراته ثاقبة رغم طفولتها، يحرك رأسه ببطء كما لو كان يتعقب شباب المقاومة، يصافح المارة قبل ان يرموا التحية، يبتسم مع كلّ تحية كما لو كان طفلاً أنهك من انتظار ألعابه، ويفرح كلما وعد بأنه سينال لعبة جديدة في فلسطين، يحدّث دون كلل والكلمة ترتجف من ثقل السنين ومن الأمل المغروس بحروفها، لم يكن مجرد شخصية عابرة، بل هو الأصغر بين الجميع، ولم يكن الشيخ الهرم بيننا، بل هو طفل الانتظار، الكلّ يرغب بصورة للذكرى، يوافق مبتسماً وفي رفضه الداخلي يقول انتظروني في فلسطين!
خبر الرحيل يا مطران الفدائيين كولادتك في كتاب الأبطال، أمثال كبوجي لا تغيب عنهم الشمس، يحملون الصليب دون خجل، وتكتب عنهم بصمة الأيام دون كلل، وتزرع الفصول سنابل سيرتهم في كلّ المناسبات، وتستمرّ الفرس العربية بالانتظار حتى يمتطيها فارسها الحقيقي الشبيه بالمطران كبوجي…
لك منا تحية إكبار، وإكبار التحية، منك تعلّمنا انّ الحلم قد يتحقق، ومنك أدركنا انّ الصليب لنتحرّر وليس لنتقيّد، ومنك استوعبنا أنّ المناصب مسؤولية وليست غاية لدنيا راحلة، ومنك عرفنا أنّ الشمس لا تتعب مهما تلبّدت الغيوم، ومنك عانقنا الدم مع وصية الوجود والمواقف، وانّ فكرة التحرّر ليست فكرة من ليس لديه العمل، بل هي فلاح العمل حيث الأرض ستعاود التصالح مع أصحاب الحق، خاصة انها في يوم رحيلك احتضنت جسدك لتعاود تعلّم ألف باء الوفاء.