لماذا لبنان الرسمي والسياسي «غائب» عن اشتباكات مخيّم عين الحلوة؟

د. وفيق إبراهيم

تتجاهل الدولة اللبنانية والقوى السياسية المحلية الاشتباكات الدامية التي تتواصل منذ شهر تقريباً في مخيم عين الحلوة المحاذي لمدينة صيدا.

هناك صمت سياسي مريب على قتال مرشّح للتمدّد إلى مدن وبلدات لبنانية، إذا لم تتمّ معالجته مسبقاً داخل المخيم. والغريب أنّ هذه الاشتباكات التي تندرج ظاهراً في إطار تصفية حسابات ونفوذ، تتضمّن في العمق حرباً بين قوى فلسطينية تكفيرية على علاقة رحمية بالقاعدة و«تكفيريّي» سورية، وبين بعض أجنحة منظمة فتح. والهدف هو نقل الإرهاب للنيل من القوى اللبنانية التي تقاتل الإرهاب في سورية، ولا تزال تؤمن بتحرير فلسطين.

ولأنّ خفايا الاشتباكات بمثل هذه الخطورة، يحقّ لنا التساؤل عن أسباب عزل هذه الاشتباكات وكأننا أمام سيرك مغلق لا يرى برامجه إلا المتابع من داخله. وما يجري في المخيم سببه مجموعات فلسطينية تنتمي إلى تنظيمات أصولية كانت تقاتل الجيش السوري إلى جانب «داعش» و«النصرة». انسحبت بعد تحرير حلب واسترجاع عشرات القرى في أرياف دمشق وتسلّلت إلى لبنان، لتجد في عين الحلوة و«أماكن أخرى» ملاذاً لها إلى جانب مجموعة تكفيرية مشابهة لها.

وبواسطة المال الخليجي والتحشيد الطائفي، تضاعف عديد هذه المجموعات… فاقتطعت مناطق خاصة بها من المخيّم، ونشرت سلاحاً ومكاتب وعناصر على رقعة كبيرة، فجرّبت منظمات فلسطينية معتدلة احتواء ما يجري ولم تنجح. كما حاولت الدولة اللبنانية طرح فكرة بناء سور حول المخيم، فرفضت المنظمات التي اعتمدت أيضاً على رفض المرجعيات الدينية والسياسية المحلية التي اعتادت على التواطؤ مع الإرهاب والاستثمار فيه. ورغم التحذيرات التي أطلقتها مؤسسات أمنية لبنانية، إلأ أنّ الدولة لم تحرك ساكناً. فهناك من يلجمها على المستوى الإقليمي والمحلي، ويبدو أنّه يهدّدها بشكل طائفي، مستعيناً بقوى أساسية في الداخل لعرقلة أيّ تحرّك أمني أو سياسي لبناني. ونموذج بلدة عرسال واضح على مدى «المأساة» حين تجتمع الضغوط الإقليمية السعودية والدولية الأميركية مع المحلي المتجسّد بالقوى الدينية المحلية والسياسية، إنما كيف تعطّل دور الدولة في التصدّي للإرهاب!! أليس هذا ما يحصل اليوم في عرسال التي لا يزال الإرهاب منتشراً في أحيائها وجرودها موصولاً بالإرهاب في العمق السوري؟

وبشكل متشابه، تجد مؤسسات الدولة اللبنانية نفسها منضبطة بالضغوط المتنوّعة، وإلا فلماذا تتجاهل مؤسسة الرئاسة الاشتباكات، وتجد رئاسة مجلس النوّاب نفسها مرغمة على الصمت خشية اندلاع قتال مذهبي! أمّا رئاسة الحكومة، فتتعامى برغم أنها ترى القشة على بعد ألف ميل حين تقصد.

وقراءة مواقف قوى الرابع عشر من آذار تصيب بالدهشة، أليست هي التي تزعم أنها الحريصة على السيادة والاستقلال؟ «حزب المستقبل» لم ينبس ببنت شفة، فتجاهل الاشتباكات، وعلاقاته بقوى مخيم عين الحلوة قوية. ويتردّد أنه يموّل قسماً منها.. اسألوا قصور آل الحريري في مجدليون كيف لا تزال تستقبل وفداً من المخيم وتودّع آخر، واسألوا «الشيخ» الأسير أين باتَ لياليه قبل أن يفرّ إلى خارج صيدا بمعونة سياسية صيداوية، و«للقوات اللبنانية» التي يترأسها السيد سمير جعجع ولها في الحكومة أربعة وزراء مواقف جريئة في كلّ ما يحدث على مستوى التفاعلات اللبنانية. لكن هذا الأمر لا يشمل وبسحر ساحر اشتباكات عين الحلوة، ولأسباب لا يعرفها إلا المتفقّهون في الدور السعودي، والذين يجيدون فنون قراءة ما تريده «الرياض».

وكيف نبرّر أيضاً إصابة «بلبل» حزب الكتائب النائب سامي الجميّل بـ«بحة» سياسية تجعله يرفع حاجبيه مستعيناً بفضائل الصمت في زمن الشدّة، وفاقداً لميزة النقّ الدائم المعتاد عليه، والذي يحصره دائماً بضرورات الحفاظ على «لبنان» للحصول على مكاسب العائلة.

وهل يمكن نسيان طلات رئيس حزب الوطنيين الأحرار التي اختفت لضرورات إقليمية، وكذلك التيار الوطني الحر الذي يأبى إزعاج زعيمه رئيس البلاد العماد عون، ولا يريد توريطه بمواقف قد تسيء إلى علاقاته بالإقليم الخليجي، وهو الراغب بنسج علاقاته بطهران، لعلّه يفتح طريقاً بين بلدين يسود بينهما التوتر السياسي والأمني في العالم الإسلامي والعربي بكامله.

مع هذا الصمت السياسي المفتعل، يبدو الرهان على الوزير وليد جنبلاط ضرورياً، فهو الوحيد المعتاد على التغريد الشجاع على «تويتر» مدوزن على مصالح «المختارة» أمّ القوى… لكن هذا المرّة أُصيب مزمار زعيم الاشتراكيين اللبنانيين بعلّة إقليمية فصمت على غير عادة.

ولأنّ العدل ميزان، فإنّ قوى الثامن من آذار اعتصمت بحبل الصمت، لكن حججها تقول إنّها تقاتل هذا الإرهاب التكفيري علناً في سورية. هناك حزب الله والحزب السوري القومي الاجتماعي وبعض الأحزاب الأخرى موجودة عسكرياً في ميادين سورية بعلنيّة واقتدار. ولا تريد فتح جبهات في لبنان تؤدي تلقائياً إلى استثمارها من قِبل بعض المجموعات الطائفية التي قد تجدها مناسبة للتحريض المذهبي وافتعال فتنة مذهبية.

أيكفي هذا التبرير؟ بالطبع لا… ويمكن القول بجرأة إنّ حزب الله يعي خطورة ما يجري في مخيّم عين الحلوة، لذلك يبذل جهوداً أمنية مضنية لكشف مسار هذه الأحداث ومنع تطوّرها إلى الداخل اللبناني. ويستعمل جهوده الخاصة، وإمكانات حلفائه بين الفلسطينيين في الداخل.. ويضع محصلة تحرّياته في خدمة الأجهزة الأمنية التابعة للجيش اللبناني والأمن العام في محاولة دؤوبة منه لمحاصرة الفتنة داخل المخيم مع محاولات إجهاضها.

إنّ حرب عين الحلوة ليست عادية، لأنّ مراميها تذهب في اتجاه تفجير حرب إرهابية في لبنان، تدفعه إلى حرب طائفية داخلية، وتحوّل «مخيماته» إلى «مخيمات يرموك جديدة». فما فائدة هذا السلاح الفلسطيني في المخيمات إذا كانت وجهته لم تعد فلسطين، بل أصبح في خدمة الإرهاب في سورية ولبنان؟ ولماذا السكوت عن محاولات تهجير مئة ألف فلسطيني من «عين الحلوة» ليرحلوا إلى بلدان أوروبية تنتظر تشتيتهم على أراضيهم… والهدف إنهاء القضية الفلسطينية وتدمير بلاد الشام وتحويلها مزارع للطوائف والقبائل؟

لذلك ليس مسموحاً الاستمرار بهذا الصمت المريب. والمطلوب تدخّل لبناني «عقول» يعتبر أنّ أرض المخيم هي جزء من السيادة اللبنانية، وتستعمل الآن لغير أغراض الإقامة من جهة، وتحرير فلسطين من جهةٍ ثانية. ما يبيح لهذه الدولة أن تتوجّه إلى اللبنانيين والفلسطينيّين بسؤال عن أهداف هذه الحرب، وهل جاء دور «عين الحلوة» وبقيّة المخيمات للتدمير، بعد تدمير حلب ودير الزور وحمص والرقة وحماة؟

ومع توفّر معلومات دولية تجزم بوجود محاولات هي قيد الإعداد، لتوسيع إطار العمليات التكفيرية بدعم من جهات إقليمية ودولية..

ويحقّ للدولة أن تلجأ إلى الشدة لأنّ المرحلة دقيقة وتتطلّب تضامناً داخلياً من جهة، ومع الفلسطينيّين من جهة ثانية. فالمخطط كبير، ولبنان الرسمي مطالَبٌ أن يمارس أدواره بوطنية، وللمرة الأولى منذ تسلّط قوى 14 آذار على سلطات لبنان الرسمي، وتعطيلها خدمة للموجّهين من الخليج والغرب.

وبالاستنتاج، فإنّ تدخّل لبنان الرسمي لن يكون إلّا من أجل المحافظة على مخيّم عين الحلوة، والدور الفلسطيني الذي يجب أن يبقى محصوراً في «فلسطينه»، وإلا فإنّه يفقد علّة وجوده، كما يريد التكفيريون ومموّلوهم في الخليج ومشغّلوهم في الغرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى