عفيف حيدر يوقّع «أيقونة جهاد» من إنتاج «المنار» وثائقيّ برؤية سينمائية… ونمط واقعيّ بلا «ضوابط شرعيّة»

عبير حمدان

أن تسجّل عين الكاميرا مادّة توثيقية عن حرب أراد مَن أشعلها منحها صفة «ثورة» أو «ربيع عربي»، ففي ذلك مشهدية تستحقّ المخاطرة لناحية الطرح، خصوصاً أن الإعلام أضحى وقوداً لتلك الحرب المتنقلة من مدينة إلى أخرى، ومن شارع إلى شارع، ومن قرية إلى قرية.

حين ينقشع غبار المعركة يدرك البعض أنّ الفوضى لا تجلب سوى الخراب، والترهيب لا بدّ من مقاومة فعلية قادرة على اقتلاعه من جذوره مهما سعى مَن يموّله إلى تعميم ثقافته القاتلة. ولأنّ الإيمان بفعل المقاومة ينبت كما العشب على هذه الأرض، تصبح حكاية النصر «أيقونة» تحمل صفة الشهيدة والشاهدة، وقد تصبح ملاكاً يحرس تلك العيون الساهرة والقادمة من نبض الوجود بقبضات ثابتة على الزناد لتقطف التحرير.

«ربلة»، البلدة السورية المسيحية التي يقطنها لبنانيون وسوريون لم يشعروا يوماً بأنّ الجغرافيا عائق أمام التعايش في ظلّ نظام منحهم كلّ مقوّمات الحياة الكريمة. هذه الحياة لم تَرُق للإرهابيين، فكانت عملية الخطف الكبرى لأكثر من مئتَي شخص من أهاليها أثناء قيامهم بقطاف التفاح، وتمّ نقلهم من البلدة إلى مدرسة كانوا قد استولى عليها الإرهابيون في بلدة جوسية.

قد تكون «ربلة» حالة خاصة في محيط نمت بين تفاصيله الكراهية كالفطريات الضارّة، ما استفزّ المخرج عفيف حيدر ليوقّع الوثائقيّ «أيقونة جهاد» من إنتاج قناة «المنار»، برؤية سينمائية مؤلمة حدّ الدهشة ومختلفة عن نمط القناة بشكل واضح، ما يمنح العمل المزيد من الواقعية البعيدة عن مقصّ «الضوابط الشرعية التي عوّدتنا عليها المنار»، وهذه نقطة تُحسب للقناة ولكلّ مَن عمل على إيصال الوثائقيّ السينمائيّ «أيقونة» إلى المتلقّي.

حيدر الذي أخرج السنة الماضية فيلم «إسوارة العروس» في محاولة منه للإضاءة على تضحيات الجيش اللبناني، يشير إلى أنّ ما يقدّمه اليوم يأتي ضمن سلسلة متّصلة هدفها التأكيد على أنّ الدين لم يكُ يوماً سيفاً قاتلاً للأبرياء، ومَن يعمل على تشويه الصورة الحقيقية لرسالة السماء بِاسمه هو منه براء.

أمّا لماذا «أيقونة لجهاد» فيقول حيدر: أردنا من خلال هذا الفيلم الوثائقيّ القول للقاصي والداني إنّ الإسلام دين محبّة وتسامح وتعايش مع الفكر الآخر، وإنّ حزب الله المقاومة الاسلامية وأهالي البلدات اللبناية المجاورة لبلدة ربلة كانوا السند والعون والداعم لأهالي ربلة في أثناء عملية الحصار التي مارسها الإرهابيون عليهم. ولنسلّط الضوء على رجال أشدّاء مدّوا يد العون وضحّوا، منهم من جُرح واستُشهِد ليحرّر أهالي ربلة المسيحيين من أسر وحوش العصر وسفّاحيه.

ويضيف حيدر في إطار متّصل بالعنوان الذي حمله الفيلم، قائلاً: في غالبية أعمالي كنتُ بعيداً عن المباشرة في الطرح، خصوصاً عند الخوض في الجانب الإنساني. لذلك فكّرت كثيراً قبل إطلاق الاسم على الفيلم، وبحثت عن قاسم مشترك بين العمل الجهادي المقدّس الذي قام به رجال المقاومة الإسلامية، وبين قدسيّة الأماكن بالنسبة إلى أهالي ربلة التي تمّ تدنيسها من قبل الإرهابيين، خصوصاً الكنائس والمزارات ودور العبادة لدى الطائفة المسيحية الكريمة، فخلصت إلى «أيقونة جهاد»، إذ إنّ الأيقونة هي تعريب لكلمة يونانية تعني صورة تُصنع وفق أساليب محدّدة بالنظر إلى اعتبارات روحانية محدّدة لتخدم أغراض العبادة، وهي تعني أيضاً الكتابة المقدّسة. والجهاد هو جانب من الجوانب المقدّسة عند المعتقدات والأديان كلّها.

ونسأل حيدر عن المنحى السينمائي الواضح في العرض رغم أنّ العمل صفته وثائقية، فيجيب: ما قمت به يُسمّى بالسينما الوثائقية، فالموضوعات الأكثر خيالية هي في الحقيقة انعكاس للواقع أو ما يسمّى إسقاطاً على الواقع، ذلك أنّ الواقع دائماً هو المجال الخصب للسينما. والسينما مهما استمدّت أحداثها من الواقع يجب عدم تقديمها كما هي وتسطيحها. من هنا اعتمدت الترميز والإيهام بالحقيقة لإيصال الفكرة إلى المتلقّي. وهنا يكون الفهم نسبيّاً بحيث تختلف مقوّمات هذا الفهم بين متلقٍّ وآخر، وهو أسلوبي في مخاطبة الجمهور، وهو خطاب سرديّ بين الصورة والصوت ومن خلال العلامات والإشارات التي يُعتمد عليها في البناء الدراميّ. ومن هنا قمت بخلق شخصية الطيف في الفيلم طيف الفتاة ذات الرداء الأبيض ، لخلق تساؤل لدى المتلقّي مَن تكون تلك الفتاة وما دورها وما سبب ظهورها في غالبية مشاهد الفيلم؟ هنا أجبر المشاهد طوعاً وحبّاً للمتابعة لأكشف في مشاهد الفيلم الأخيرة عن تلك الشخصية مَن هي، وعن خطّها الدرامي المتصاعد في الفيلم.

طيف الفتاة ذات الرداء الأبيض واحدة من المفردات التي استعملتها في الفيلم مبتعداً كلّ البعد عن الصورة الأرشيفية النمطية المعتمدة في الوثائقيات. بمعنى أنّ أيّ لقطة لا يمكن أن تكون قائمة بذاتها. فقد قمت بتحديدها بوساطة عدد من العناصر للإيحاء بها مع اعتماد التنوّع الجمالي في الصورة والكادر. فبالنسبة إليّ هي سمة فيلمية أصيلة وبالعموم رؤية المخرج هي التي تفرض المنهج الذي سيحقّق من خلاله هذه الرؤية وهذا يظهر جليّاً في اعتمادي على الإيحاء كوثيقة وشاهد حيّ على ما جرى. طيف الفتاة في الفيلم هو بمثابة الشاهد الحيّ والطيف في آن، خصوصاً أنّني سلّطت الضوء على نظرات الفتاة إلى الأشخاص المستصرحين في الفيلم، وكذلك اعتمدت على الأشخاص الحقيقيين أصحاب القصّة في الفيلم.

ويؤكّد حيدر اعتماد الأسلوب السينمائي في تصوير الفيلم، حيث اعتمد اللقطات المنفصلة التي حدثت في مكان واحد وزمان واحد، لتكون مجتمعة لتثبيت المشهد السينمائيّ. ولأن الحدث يتّسم بالأهمية، استعمل حيدر «gopro» و«flying cam» كاميرا أساسية واثنتين مرادفتين. وقام بتصوير مشاهد الـ«gopro» بنفسه.

ولإيمانه بأنّ عملية المونتاج هي إخراج ثانٍ للعمل، آثر القيام بها بنفسه، وأيضاً المكساج وعملية تصحيح الألوان.

تجدر الإشارة إلى أنّ التصوير تمّ في بلدات ربلة وجوسية والقصير، وكانت هناك مشاهد في الجنوب اللبناني ضمن طبيعة مشابهة للمنطقة الأصلية موضوع الفيلم.

يذكر أنّ فيلم «أيقونة جهاد» من إنتاج قناة «المنار»، سيناريو وإخراج ومونتاج ومكساج وكولورينغ ومنتج منفّذ عفيف حيدر، إعداد وتحقيق مريم فاضل، مدير تصوير بلال جلوان، تصوير جوي علي فحص، مساعد مخرج أحمد فحص.

في المشهد الأخير، تقف الفتاة طيفاً ثابتاً بين المجاهدين والإرهابيين، تبدو كأنها تحميهم وهم بدورهم يحمون بياض ردائها الملائكي، نظرتها الحادّة بالحقّ تهزم حقد الوجوه الملثّمة بسواد الإجرام… يغيب «طيفها» بسلام، ويحمل المجاهد صليبها إلى حيث ارتقت، هنا تتلقّف روحها بشارة النصر الحاسم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى