الأكراد مجدّداً… تحت رحمة «الآستانة»
د. وفيق إبراهيم
استعملت بريطانيا العظمى الأقليات الآشورية والكردية قبل العام 1920 لتقوية نفوذها في المنطقة الممتدة من العراق حتى منتصف تركيا العثمانية، وأوهمتهما أنّها بصدد السماح لهما بتشكيل كيانات سياسية.
تخلّت أولاً عن الآشوريّين، وسمحت للأتراك بإبادة أحلامهم وتشتيتهم. وعقدت مؤتمراً دولياً العام 1920، اعترفت بموجبه في معاهدة سيفر بـ»الحقوق القومية للأكراد»، لكنّها سرعان ما تخلّت عنهم في مؤتمر لوزان الدولي عام 1923، وأتاحت لتركيا تدميرهم وتهجير قسم كبير منهم نحو سورية، وأغمضت عينها عن إلغائهم ثقافياً في تركيا الأتاتوركية…
فهل يُعيد التاريخ نفسه بأشكال حديثة؟
الأكراد اليوم منقسمون بين ثلاثة اتجاهات يساري قومي هو حزب العمال الكردستاني، الذي تعتقل أنقرة زعيمه أوجلان وتزجّ به في سجونها. وهذا التيار يطالب بدولة مستقلّة في مناطق الأكراد التاريخية، الذي تشغله تركيا بالقوة، ويتمتّع أيضاً بتأثير قوي بين أكراد العراق وسورية. أمّا الاتجاه الثاني فيترأسه آل البرزاني في كردستان العراق، الذين يشكلون عائلة إقطاعية تتوارث الزعامة، ولم تتوانَ عن التعامل مع الإسرائيليين، كما فعلت في سبعينيات القرن الماضي، ومع الأميركيين في العقود الثلاثة الأخيرة، ولم تخجل من نسج علاقات مع الأتراك لبيع النفط العراقي تهريباً، ومحاولة الاستقواء بأنقرة ضدّ الدولة المركزية في العراق. والتيار الثالث هم أكراد سورية، ومعظمهم من الأجزاء الكردية في تركيا هرباً من مجازر أتاتورك، ويتمثّلون بالاتحاد الديمقراطي في سورية. مشكلة هؤلاء أنّهم أصبحوا في مواجهة «داعش» والتنظيمات الراديكالية التكفيرية، ومقطوعة اتصالاتهم البرّية مع الدولة السورية.
لقد سمح هذا التطويق الجغرافي «المقصود» للأميركيين للإمساك بسياسات الأكراد… دغدغوا لهم مشاعرهم بكيانات مستقلّة، وبنوا لهم وحدات عسكرية «ديمقراطية» أتاحوا لها الحركة العسكرية المدعومة على مدى جغرافي أكبر من حجم الانتشار الديمغرافي الكردي، ما جعلهم جزءاً أساسيّاً من الصراع العسكري في سورية.
إنّما ما هو هدف الأميركيين من استعمال الأكراد؟ يشكّل الأكراد «الآلة الوحيدة» التي تستطيع التأثير على التفاعلات السياسية والعسكرية في أربع دول متجاورة، بدءاً من تركيا، حيث يشكّلون 15 في المئة من سكانها، وعشرة في المئة من سكان سورية، ونحو 15 في المئة في العراق، إلى جانب سبعة في المئة من الإيرانيين. وهكذا يتبيّن عمق اللعبة الأميركية من استمالة الأكراد نحوهم بالتغرير بهم بوعود، يصادف أنّها تعادي تركيا والعراق وسورية وإيران دفعة واحدة، لذلك يمكن اعتبار القوة الكردية أهمّ أداة يسعى الجيوبوليتيك الأميركي لضبطها في إطار مصالحه أولاً، ويبدو أنّ قسماً هامّاً من أكراد سورية والعراق اندمج في اللعبة الأميركية متوهّماً بإمكانية تحقيق دولة كردية مستقلة.
وكيف جابهت الدول المتضرّرة هذا المشروع الأميركي؟
يجنح العراق المركزي إلى القبول بإقليم كردي فدرالي، قد يؤدّي إلى استقرار الأوضاع، محاولاً بذلك تعطيل اللعبة الأميركية والاستعمال التركي للكرد بذرائع مذهبية واهية.
وكذلك، تتّجه الحكومة السورية إلى الإقرار بإقليم كردي سوري من ضمن وحدة الدولة السورية، وفي إطار المواطنية السورية.
أمّا عن إيران، فقد عثرت حكومتها على حلّ مناسب، يستحضر المساواة من خلال «إيديولوجيا الإسلام» التي هي فلسفة الدولة، حيث لا فرق بين إيراني وكردي وعربي إلّا «بالتقوى والصلاة» والولاء لمشروع الجمهورية الإسلامية. لذلك لا يوجد تمايز كبير بين الأعراق الموجودة في إيران إلّأ بقدر انتمائها لمشروع الدولة، كما تقول هذه الدولة، والدليل أنّ هناك عشرات القيادات الكردية في المراكز العسكرية والسياسية، حتى أنّ الخامنئي نفسه هو أذربيجاني وليس فارسياً.
يبقى تحليل السياسات التركية إزاء الأكراد. فلقد تميّزت منذ عشرينيات القرن الفائت بالمجازر والقتل والإلغاء الثقافي والسياسي والاقتصادي، وكانت الدولة التركية تسمّي الأكراد رسمياً بـ»أتراك الجبل»، وتمنع التعليم بلغتهم، وترفض استحضار تاريخهم المشرق منذ صلاح الدين الكردي حتى الغزو العثماني لأوروبا، الذي شكّل الأكراد عماداً مهماً من أعمدته.
لقد خضع الأكراد لسياسات التصفية التركية نحو لعقود عدة، ذاقوا خلالها الأمرّين، إلى أن ظهر حزب العمال الكردستاني الذي كان يرتبط بعلاقات مع الاتحاد السوفياتي، واستفاد من تدهور العلاقات السورية التركية في تلك المرحلة، فحظي بشيء من الدعم السوري.
وشكّلت مرحلة التسعينيات فرصة للانقضاض التركي على الأكراد في مناطقهم الجبلية في تركيا والعراق بالقصف الجوّي والبرّي والتصفيات الفردية والمجازر في القرى، تحت أنظار العالم الذي لم يحرّك ساكناً، تاركاً لأنقرة مسألة إبادة المعترضين… وجرى اعتقال أوجلان في أفريقيا من قِبل المخابرات التركية، بالتوازي مع إصرار تركي على إبادة حزب العمال الكردستاني. ولم تنجح في مشروعها لتعارضه مع السياسات الأميركية الرامية إلى استعمال الكرد في المخططات الإقليمية من جهة، ولصلابة الأكراد ومناعة مواطنهم الجبلية من ناحيةٍ ثانية.
وفيما لا يشكّل الكرد هاجساً مقلقاً للإيرانيين والعراقيّين والسوريّين، فإنه ينغّص على الأتراك حياتهم لأسباب عدة: عددهم الذي يقارب الـ12 مليوناً من أصل سبعين مليوناً هم كامل الشعب التركي، ومناطقهم الجبلية والسهلية المنفصلة ديموغرافياً وجغرافياً، حتى أنّ الكرد يشكّلون غالبية سكان مدينة هامّة كاسطنبول. وهذا يعني أنّ تمرّدهم يشجّع أقليات أخرى على المطالبة بالانفصال.. ولتبيان خطورة التحرّك الكردي، يكفي القول إنّ هناك ما يقارب العشرين مليون علوي تركي، بينهم قلّة من أبناء الاسكندرون، تعرّضوا لقهر ثقافي وديني منذ ستمئة عام، ومُنعوا من إقامة مراكز دينية لهم، وهم الآن يشكّلون عصب الأحزاب الوطنية واليسارية التركية.
لذلك، تستشعر السلطات التركية خطورة الانفصال الكردي، وتعتبره مقدّمة لانهيار «تركيا الحديثة» الموجودة على قسم بسيط من تركيا العثمانية التي انهارت في العام 1917.
ماذا عن خطوات أنقرة لاحتواء التحرّك الكردي؟
إنّها تضبط حركته في العراق داخل كردستان، وتعطّل ارتباطاته مع الأكراد في الأقاليم الأخرى، وتطمئنّ إلى استيعاب إيران لهم بأساليب إيديولوجية، وتحاصرهم في كردستان الجبلية التركية. والمنطقة الوحيدة التي تثير رعبها هي سورية، حيث يتحرّك الكرد بحريّة سياسية وعسكرية تؤرّق الأتراك وتسبّب لهم عداوة مع الأميركيين الرُّعاة الفعليين لتحرّكاتهم.
وما إنشاء أنقرة عشرات التنظيمات المتطرّفة في سورية، إلّا لأهداف تتعلّق بمحاولات استئثارها للنفوذ في سورية، وعلى أساس استبعاد الكرد عن أيّ حلّ سياسي يؤدّي إلى إنشاء كيان مستقل.
هذا ما تفعله أنقرة في الشمال السوري، حيث تحاول إعادة الكرد إلى شرق الفرات، لتمنع استيلاد كيان كردي على حدودها من المتوسط إلى الحدود السورية العراقية، ما يؤدّي تلقائياً إلى إنتاج دولة كردية في شرق تركيا، فتحاول تجنّبه بأيّ من الطرق العسكرية والسياسية. لكنّها تجابه، حتى الآن، بصدّ أميركي يحمي الكرد بشكل حقيقي، فوجدت أنقرة نفسها مضطرة إلى الانفتاح على روسيا لبناء تفاهم يؤدّي إلى مسألتين: إجهاض أيّ مشروع كردي مستقلّ، وتحقيق نفوذ معقول لتركيا في سورية.
وما يكشف عن العداء التركي العميق للكرد، يظهر في رفض أنقرة لأيّة مشاركة كردية مستقلّة في إطار مؤتمرات السلام السورية في جنيف، ولاحقاً في أستانة التي ينتظر أن تنعقد أواخر الشهر الحالي.
وأسباب الرفض واضحة، وهي الخشية التركية من استيلاد إقليم كردي مستقلّ في سورية، ينعكس على أوضاع كرد تركيا. لذلك هناك رفض تركي لأية مشاركة كرديّة مستقلّة في مؤتمر أستانة، يشبه إلى حدّ كبير ما فعلته بريطانيا بالكرد في اتفاقية لوزان 1923، حين باعتهم إلى الأتراك. فهل تشهد أستانة بيعاً أميركياً روسياً للأتراك مقابل انسحابهم من المناطق الشمالية في العراق وسورية؟
هناك ألغام كثيرة في مؤتمر أستانة قد تنفجر حتى قبل انعقاده، لتسمح باستمرار الأزمة السورية، كما تريدها واشنطن. والمطلوب من الكرد أن يفرّقوا بين أصدقائهم في الدولة السورية وأعدائهم في تركيا، لكي لا يقعوا مرة جديدة في لعبة الأمم…