مطلوب «جاستا» دولي لتعويض العراقيين والفلسطينيين عن عدوان أميركا و«إسرائيل»
ميشيل حنا الحاج
القانون الذي عرف باسم «جاستا»، هو القانون الصادر مؤخراً عن الكونغرس الأميركي الـ 114 وأعطي الرقم 222-114 وحمل عنوان The Justice Against Terrorism Act وتشكل الحروف الأولى من عنوانه، الاسم الذي عرف به وهو JASTA.
هذا القانون منح الأميركيين المتضررين من أحداث الحادي عشر من أيلول2001، حق إقامة دعاوى قضائية على السعودية رغم ما قد تتمتع به من حصانة دبلوماسية، مطالبين بالتعويض عن الضرر المادي أو المعنوي الذي أصابهم نتيجة تلك الأحداث. وهذه مطالبات فردية ولا علاقة لها باحتمال قيام الدولة أيضاً بمطالبة الحكومة المعنية التي تسبب مواطنوها بالضرر، بالتعويض عما تكون قد تسببت به من ضرر للبلاد.
لكنّ المشرع الأميركي لم يدرِ أنه بالسماح للأفراد الأميركيين بإقامة دعاوى مستقلة تطالب دولة ما السعودية في هذه الحالة بالتعويض، قد أرسى مبدأ قانونياً هاماً ربما يمهد الطريق لشعوب دول أخرى غير الأميركية، لمطالبة دول ما ومنها، بل في مقدمتها الدولة الأميركية، بتعويضات عما أصابها أيضاً من ضرر مادي ومعنوي، وتسببت به لها دولة ما كما حدث بالنسبة للشعب العراقي الذي تأذى كثيراً نتيبجة الغزو الأميركي غير المبرّر عام 2003 للعراق متسبباً بأضرار كبيرة للمواطنين العراقيين ولممتلكاتهم، إضافة لما ألحقه من ضرر للدولة العراقية كدولة، وأخذ حيدر العبادي، رئيس وزراء العراق، يطالب مؤخراً الولايات المتحدة بتعويض العراق عنه.
فإذا بات للأميركيين بموجب قانون جاستا، الحقّ كمواطنين فرادى، بمقاضاة السعودية مطالبين بالتعويض عن الأضرار المادية والمعنوية التي لحقت بهم نتيجة أحداث أيلول 2001، رغم أنّ التحقيق الرسمي لم يدن السعودية رسمياً، أو يحملها مسؤولية مباشرة عما حدث حيئذ… فإنّ الحال مشابه بالنسبة للعراقيين، إذ لهم قياساً على هذا القانون، الحقّ بإقامة دعاوى من قبلهم كمواطنين فرادى، على الولايات المتحدة، مطالبين إياها بتعويضهم عن الضرر المادي والمعنوي الذي أصابهم نتيجة تلك الحرب البائسة الغادرة التي شنتها الولايات المتحدة وبريطانيا على العراق بدون مبرّر، خصوصاً وقد كشفت التحقيقات اللاحقة عن الخطأ الجسيم الذي ارتبكته الولايات المتحدة واعترف به تقرير السير جون شيلكوت الذي رئس لجنة تحقيق بريطانية، كما اعترف به توني بلير، رئيس وزراء بريطانيا، واعترف به أيضاً في مذكراته جورج بوش الابن، رئيس الولايات المتحدة آنذاك.
فمع وجود السابقة الأميركية الموجهة ضدّ السعودية والتي باتت تمهد الآن للقياس عليها والاقتداء بها في دول أخرى، بل يفترض بمجلس الأمن الدولي أن يقننها ويتبناها قريباً بقرار دولي صادر عنه ، بات من المتوقع أن يتقدم بعض العراقيين كأفراد، بمطالبات كهذه، خصوصاً إذا أصدر البرلمان العراقي أسوة بالكونغرس الأميركي، قراراً أو قانون جاستا عراقي مشابه للقرار الأميركي الذي شكل سابقة قانونية هامة يمكن الاقتداء بها في كلّ أرجاء العالم، علماً أنّ هناك اعترافات شبه رسمية، كما ورد سابقاً، من قبل السير شلكوت وتوني بلير وبوش الابن بارتكاب خطأ من جانبهم يحملهم المسؤولية عما حدث، وذلك خلافاً للوضع بالنسبة لقانون جاستا الذي لم تعترف السعودية بمسؤوليتها عما حدث في عام 2001.
وقياساً على ذلك أيضاً، قد يكون بوسع بعض سكان فيتنام الشمالية والجنوبية، إقامة دعاوى على الولايات المتحدة بسبب ما أصابهم من ضرر مادي ومعنوي، بل وبوسع سكان هيروشيما وناكازاكي أن تطالب أيضاً الأميركيين بتعويض عما أصابهم أو أصاب أقرباءهم بضرر مادي ومعنوي. صحيح أنّ جاستا يتحدث عن الضرر الناتج عم عمل إرهابي، والحالة في اليابان أو فيتنام، كانت نتاج عمليات حربية، ولكنّ الحروب غير العادلة وغير المبررة قانونياً وإنسانياً، يمكن تكييفها بعمليات شبه إرهابية… إنه إرهاب الدولة.
والواقع أنّ قائمة من يمكنه الاستفادة من هذا القانون، ومن اعتباره سابقة قانونية يمكن القياس عليها، هي قائمة طويلة قد تبدأ بالأرمن الذين تضرّروا في بداية تسعينات القرن الماضي من اضطهاد فاحش لحقهم من قبل الأتراك والحكومة العثمانية القائمة آنئذ. وقد تتسع لتشمل من تضرروا بالانقلاب الأميركي الذي نفذه بينوشيه في تشيلي في سبعينات القرن الماضي وأودى بحياة مئات الألوف من التشيليين، بل أيضاً من تضرُّر من اليوغوسلافيين من قيام الولايات المتحدة بتأجيج عملية تجزئة يوغوسلافيا إلى دويلات، وغيرها من العمليات المشابهة سواء كانت الولايات المتحدة المسؤولة عنها أو دول أخرى يمكن مساءلتها عن ضرر ألحقته بالآخرين.
وهنا يأتي دور مساءلة «الإسرائيليين» عما ألحقوه من ضرر وإيذاء للشعب الفلسطيني الذي جرى اعتداء واضح عليه من قبل «الإسرائيليين». فقد اضطر الكثير من الفلسطينيين لمغادرة البلاد في عام 1948، نتيجة الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها ضدهم عصابتي شتيرن والآرغون. وكانت أبرز عملياتهم الإرهابية اقتحام قرية دير ياسين في التاسع من حزيران، حيث نفذت أعمالاً وحشية بحق النساء، ما أثار الرعب في قلوب المواطنين الفلسطينيين الأبرياء وغير المسلحين إلا ببضعة بنادق قديمة بأيدي بعض المزارعين غير المدربين على استخدامها. كما قامت الهاجانا باستخدام برج مرتفع في شمال مدينة يافا وصف بكونه معملاً للبيرة، بقصف مدينة يافا الآمنة بهدف ترويع سكانها، ما اضطر العديد منهم إلى مغادرة المدينة سعياً لحماية أسرهم وأطفالهم، خصوصاً أنّ مذبحة دير ياسين، وما تضمنته من بقر بطون حوامل واغتصاب فتيات، كانت ولا تزال مشتعلة في الأذهان. وكانت أسرتي واحدة من الأسر التي اضطرت لمغادرة المدينة حرصاً على البنات الأربع في الأسرة.
وتبعت ذلك على امتداد سنوات الاحتلال الصهيوني الطويل، سلسلة من المجازر بحقّ الفلسطينيين ومنها مذبحة كفر قاسم وغيرها من المذابح، ولعلّ أبرزها لكن ليس آخرها، مذبحة صبرا وشاتيلا في عام 1982 والتي نفذت بأيدي مقاتلي حزب الكتائب، لكن بتخطيط وتنفيذ تحت أشراف أرييل شارون وزير الدفاع «الإسرائيلي» الذي أدانته محكمة «إسرائيلية» وحملته المسؤولية عما حدث، لكن قادة الأحزاب الصهيونية كافأوه وترفع إلى مرتبة رئيس وزراء «إسرائيل».
هذه وغيرها من الأعمال الوحشية التي اقترفت بحقّ الفلسطينيين من قبل «الإسرائيليين»، تمنح الفلسطينيين المتضرّرين مادياً و/أو معنوياً وفي خضم عجز السلطة الفلسطينية الرسمية عن إقامة دعاوى كهذه في الوقت الحاضر إقامة الدعاوى الفردية، الدعاوى الشخصية، أمام المحاكم داخل اسرائيل أو خارجها، مطالبين بالتعويض عن الضرر الذي لحق بهم دون أن يكون في ذلك تنازلاً عن حقهم في العودة إلى بلادهم إن كانوا ممن يقيمون الآن خارج الأراضي الفلسطينية … وذلك قياساً على وجود هذه السابقة القانونية التي أرستها الآن الحكومة الأميركية بإقرارها قانون جاستا.
ولكنّ قانون جاستا، لم يكن هو القرار الأميركي الوحيد الذي أرسى سابقة خطيرة لا بدّ من النظر إليها جدياً وبدراسة معمقة. فعندما قرّر الرئيس بوتين استرداد شبه جزيرة القرم الروسية أصلاً، إلى الدولة الروسية، انتفضت الولايات المتحدة رافضة هذا الإجراء، معتبرة إياه اعتداء على الآخرين وعلى ممتلكاتهم، متناسية أنها باركت قبل 68 عاماً، اعتداء الصهاينة على الأراضي الفلسطينية، والاستيلاء عليها بذريعة أنها ممتلكات سابقة لهم… ممتلكات لهم منذ ثلاثين قرناً من الزمن كما يدّعون.
فاستعادة روسيا الاتحادية لشبه جزبرة القرم التي كانت أصلاً ولقرابة ستين عاماً تقريباً مضت، جزءاً لا يتجزأ من الجمهورية الروسية، لكنّ خروشوف الأوكراني الأصل، الأمين العام للحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي آنذاك، قرّر ضمها لجمهورية أوكرانيا التي كانت أيضاً عضواً في الاتحاد السوفياتي، تماماً كما كانت روسيا أيضاً صاحبة شبه جزيرة القرم عضواً في الاتحاد السوفياتي، ما جعل الانتقال يتم عملياً داخل عضوين في دولة واحدة متحدة. لكن عندما تفكك ذاك الاتحاد، بات طبيعياً أن تطالب روسيا باسترداد أرضها تلك، ولكن لتلقى خطوتها تلك اعتراضاً دولياً، وخصوصاً أميركياً، رغم أنّ الولايات المتحدة هي التي بادرت مع بريطانيا ودول أخرى في عام 1948، للاعتراف بدولة «إسرائيل» التي أقيمت على ما سمي بأراض كانت لليهود…منذ متى… منذ ثلاثين قرناً، وليس قبل ستين أو خمسة وستين عاماً فقط هي الأعوام التي فقدت فيها روسيا هيمنتها على شبه جزيرة القرم نتيجة نقل سيادتها إدارياً من جمهورية لأخرى، كلتاهما داخل اتحاد دستوري قائم حينئذ ولم يعد قائما مؤخراً.
أنا لا أعلم كيف لم تدرك الولايات المتحدة أنها باعتراضها ذاك على استعادة روسيا لشبه جزيرة القرم، إنما ترسي مبدأ دولياً قانونياً، يلغي مشروعية كل اعتراف بـ»إسرائيل» كدولة منذ عام 1948 ، لكونه اعترافا بدولة أقيمت على أراضي الغير، نظراً لإلغاء الأساس القانوني الذي استند إليه اليهود في إقامة تلك الدولة، وهو استرداد أراض كانت لهم في الماضي البعيد جداً جداً هذا إن كانت لهم حقاً في ذاك الماضي البعيد متناسين وجود الكنعانيين العرب في تلك الأراضي .
والأرجح أنّ المفكرين ورجال القانون في الولايات المتحدة ربما أدركوا حينئذ ولو لوهلة هذه الحقيقة، فحاولوا بالتالي أن يبعدوا الأنظار عنها… عن المطالبة باسترداد أراض ربما كانت في الماضي ملكاً للآخرين. ففي رؤية أخرى لهم أكثر تأنياً، لم يعد يستدعي دهشة وعجباً، ذاك الموقف الأميركي الرافض لاستعادة روسيا لشبه جزيرة القرم، لأنّ فيه على أرض الواقع، دفاعاً عن تواجدهم هم على الأرض الأميركية ذاتها التي هي أصلاً ليست لهم، بل هي ملك للهنود الحمر الذين تم استئصال الملايين منهم، كي يتمكن الأميركيون الجدد القادمون من الخارج من إقامة دولتهم على حساب ضحاياهم من الهنود الحمر. فالاعتراف بحقّ أصحاب الحق باسترداد ما كان لهم، إنما يقوض أسس بناء الدولة الأميركية ذاتها التي أقيمت على ممتلكات الآخرين. فالولايات المتحدة ترفضه إذا تعلق الأمر باستعادة الروس لشبه جزيرة القرم، أو بمطالب بعض الهنود الحمر لاستعادة الهيمنة على بعض الأراضي المنتزعة منهم، لكنها تباركه وتتبناه عندما يتعلق الأمر بمطالبة اليهود بأراض فلسطينية ادّعوا أنهم أقاموا عليها قبل ثلاثة ألف عام.
ومع ذلك فإنني مندهش وأتساءل: كيف لم يلتفت الكتاب والمحللون السياسيون والمفكرون العرب ورجال القانون من فلسطين والدول العربية…. إلى هذه النقطة الجوهرية، ويركزون عليها كأساس قانوني لبطلان وجود دولة «إسرائيل» على أراض ليست لهم ولا حق لهم في استردادها. فقد كان يفترض برجال القانون والمفكرين العرب، أن يقيموا الدولة ويقعدوها لدى رفض الولايات المتحدة الاعتراف بحق روسيا في استرداد شبه جزيرة القرم، مذكرين، قياساً على ذلك، بعدم وجود أي حقّ لليهود باسترداد ما اعتبروه أرضاً كانت لهم قبل ثلاثة آلاف عام. لكنهم لم يفعلوا شيئاً في هذا الشأن، بل ولم يتجاوب أحد مع مقال واضح لي في هذا الشأن، موضحاً ظهور هذه السابقة القانونية وأهميتها، وكنت قد نشرت المقال بتاريخ 15 آذار 2014 على موقع الحوار المتمدن وحمل رقم 4394، وعلى تويتر أيضاً، وعلى غوغل ومواقع كثيرة أخرى. إلا أنّ أحداً لم يقرأ ولم يسمع للأسف، وقد لا يقرأوه الآن أيضاً. فقد أسمعتَ لو ناديت حياً… لكن لا حياة لمن تنادي.
مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الإرهاب ـ برلين.
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي ـ واشنطن.
عضو في اتحاد الكتاب والمفكرين الأردنيين.