ترامب وأفول العولمة الأميركية

صفية سعاده

تقهقر الاقتصاد الأميركي

أحد الأسباب الرئيسة لفوز ترامب في الانتخابات الرئاسية على منافسته هيلاري كلينتون، هو الانهيار الاقتصادي الحاصل في الولايات المتحدة الأميركية. ولطالما كان الاقتصاد هو المحرك الفعلي في ترجيح كفة أصوات الأميركيين، إذ إنهم يعيشون في جزيرة قارة ضخمة، وبالتالي لا يأبهون كثيراً لمجريات السياسة الخارجية.

بعد إخفاق رئاسة بوش الابن في تحقيق انتصارات مدوية في افغانستان والعراق، وتوريط الجنود الأميركيين في هذين البلدين، بدأت ملامح فيتنام جديدة تتكوّن مع ما يعني ذلك من تآكل النفوذ الأميركي في مستنقعات آسيا الوسطى والغربية، وتراكم العجز المالي.

وصل باراك أوباما الى سدة الرئاسة، لأنه وعد الناخبين الأميركيين بأنه سينهي الحروب خارج الأراضي الأميركية، وسيعيد الجنود الأميركيين إلى الوطن. وسرعان ما واجهته أزمة سيولة مالية كادت تطيح بالمصارف الكبرى ليس فقط في الولايات المتحدة الأميركية، بل في العالم أجمع.

بسبب هذا الانهيار الذي تلافاه أوباما بحجز أموال المواطنين الأميركيين، أعادت دول العالم النظر في نظام معولم قد يطيح بها من دون أن تكون هي مسؤولة عن أخطاء ارتكبها النظام المالي الأميركي الذي أفلت العنان للمصارف الأميركية التي تتصرّف من دون أيّ ضوابط أو رقابة.

العامل الاول إذاً هو زعزعة ثقة العالم بالنظام المصرفي الأميركي، وبالتالي أخذ الاحتياطات اللازمة لدرء تبعات انهيار هذا النظام، كانت نتيجتها إنشاء نظام مالي بديل تترأسه كلّ من الصين وروسيا ويضمّ دولاً أخرى، يتبادل السلع على أساس عملات محلية غير الدولار، ويقوم بمشاريع إنمائية مستقلة.

بالإضافة الى تحوّل العالم باتجاه التفتيش عن حلول بديلة للنظام المالي الأميركي المعولم، نشأت أزمة اقتصادية كبرى داخل الولايات المتحدة الأميركية من جراء العولمة نفسها التي نادى بها، وشجّعها، ونشرها الرأسماليون الأميركيون في الدرجة الاولى.

لقد أخذ الرأسمال الأميركي يتسرّب خارج أراضي الولايات المتحدة الأميركية، ما يعود بالنفع على أقلية محدودة العدد من كبار الرأسماليين الأميركيين، لكنه يؤدّي الى إغلاق المصانع والمعامل والصناعات في أرجاء الدولة الأميركية. انتقل العمل من داخل هذه الأخيرة الى خارجها، وبشكل خاص الى غريمتها: الصين. فلا دولة تستطيع منافسة اليد العاملة الرخيصة الصينية، وأيّ منافسة للسوق الصينية محتومة بالفشل.

التتمة ص8

انهارت الطبقة الوسطى الأميركية، وأصبحت البطالة عالية، وتبخر الحلم الأميركي بإمكانية الحصول على منزل وسيارة لكلّ عائلة، وتشرّدت ألوف العائلات، خاصة أنّ الولايات المتحدة الأميركية ليست بدولة رعائية، فهي لا تؤمّن ضماناً صحياً مجانياً، ولا ضماناً اجتماعياً كما تفعل دول أوروبا، أو كندا أو اوستراليا، أو حتى دول أميركا اللاتينية، على فقرها، ككوبا مثلاً. هذه الشريحة هي التي صوّتت لدونالد ترامب، لأنّ هيلاري كلينتون أرادت أن تكمل مسيرة العولمة، فلقد وعد ترامب بإعادة تفعيل الاقتصاد والمصانع، وإعطاء الأولوية لرفاهية الشعب الأميركي.

العودة إلى ترسيخ القومية

مسار العولمة الذي خطته أميركا يستوجب الهيمنة الاقتصادية الشاملة على العالم، ومن أجل بلوغ هذا الهدف كان من الضروري إلغاء دور الدول الوطنية/ القومية الأخرى عبر محاربة كلّ أشكال الأنظمة الاشتراكية أو القومية، ودفع دول العالم الثالث خاصة الى خصخصة ممتلكات الدولة، وتخلي الدولة عن لعب أيّ دور ناظم في المجتمع أو الاقتصاد. تحرير السوق أدّى الى القضاء على اقتصاد الدول النامية التي لا تستطيع منافسة الدول الصناعية الكبرى، وحوّلها مراكز استهلاك لا إنتاج.

أهداف العولمة اذاً تتضارب مع وجود الدولة القومية التي تدافع عن مواطنيها وعن حقوقهم المادية والمعنوية. فالعولمة تلغي نهائياً مفهوم الدولة الديمقراطية، حيث يقرّر الشعب مصيره، ويُستبدل ذلك بهيئات ناظمة عابرة للدول، كما حصل في الاتحاد الاوروبي، ومثال هذا الاتحاد هو الأقلّ بشاعة من أمثلة دول أفريقيا والعالم العربي. فلقد وجدت دول الاتحاد الأوروبي الفقيرة كاليونان واسبانيا وإيطاليا أنها خسرت قراراتها المستقلة واصبح البرلمان الاوروبي هو الذي يبادر الى توجيه مسار هذه الدول شاءت أم أبت. وفي وضع من هذا النوع يبدو جلياً أنّ الدول القوية هي التي ستطغى على الدول الضعيفة، وفي حالة الاتحاد الاوروبي، اصبحت المانيا هي القاطرة التي تملي على الجميع ما عليهم فعله. الا ان الاتحاد الاوروبي، بما فيه المانيا، هو بدوره فريسة النفوذ الأميركي.

التمرّد على العولمة حاصل اليوم في الدول المتقدّمة والتي عملت جاهدة لإرغام الجميع الدخول في شبكتها. تمرّد مواطنوها، من الولايات المتحدة الأميركية إلى بريطانيا، لأنّ شعوبها لا تريد أن تصادَر حرياتها وقراراتها ومصيرها.

ترامب يتكلم باسم هذا المنحى الجديد، وكما يشدّد على أهمية الحفاظ على قومية ومصالح الولايات المتحدة الأميركية، فإنه أيضاً يؤكد بأنه لن يتدخل في أمور الدول الأخرى، وليس في صدد شنّ حروب على دول لتغيير أنظمتها.

هذا الموقف يقود الى النتائج التالية والتي هي معاكسة تماماً للسياسات التي سبقته:

أولاً: الاعتراف بالدول الأخرى وقبول الاختلاف بين نظامه وأنظمتها.

ثانياً: الاعتراف بتعدّد الأقطاب في العالم، بالرغم من هدف ترامب جعل أميركا الأقوى والأفضل بين الدول.

ثالثاً: الالتزام بالقوانين الدولية في فضّ النزاعات بين الدول.

رابعاً: اعتراف ترامب ان لا وجود للدولة الديمقراطية الا في إطار الدولة القومية التي يقرّر شعبها مصيرها، ورفض خزعبلات الـ establishment الأميركي الذي يتظاهر بأنه يريد فرض الديمقراطية على الشعوب الأخرى بحدّ السلاح والدمار.

خامساً: يريد ترامب القضاء على الإرهاب التكفيري الآخذ في التفشي في العالم، وهو يقول صراحة إنه نتاج الإدارات الأميركية السابقة. أما لماذا أرادت هذه الإدارات دعم وتمويل الإرهاب التكفيري المبني على الفكر الوهابي الإلغائي، فلأنّ هدفها كان استعمار العالم ووضعه تحت الهيمنة الأميركية من دون اللجوء الى جنود أميركيين يقومون بهذه المهمة ويُقتلون، فالمواطنون الأميركيون يرفضون الحرب الا في حال الدفاع عن ارضهم القومية. هيمنة الإسلام السياسي الذي أدرجه أوباما تتطابق مع معايير العولمة العابرة للدول القومية، لكنه لا يتماشى البتة مع مفاهيم الدولة القومية العلمانية، وبالتالي يرفضه ترامب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى