مفاتن الحكايات المبهجة!
أحمد علي هلال
ثمّة رسالة جاءتني على «الجوّال» تقول: «سياحة إلى الضحك والفكاهة، اِحصل على أطرف نكت مصوّرة… إلخ».
وبمكر طفوليّ، تساءلت: هل أملك القدرة على تلك السياحة البهيجة، عملاً بالقول المأثور: «طنشّ تعش تنتعش!»؟
أزعم أن ما يحيط بي من مفارقات بسيطة ومركّبة في آن، قد يجعل منّي «عرّاباً» ـ ليس أخيراً ـ لفكاهاتٍ مبتكرة وبكلّ ألوان الطيف، بدءاً من الذين يتحدّثون مع أنفسهم في الطريق، ويرمقهم المارّة بشيء من الدهشة والفضول، أو من أولئك «المبروكين» ـ الدراويش الذين ينتعلون الأرض ويلتحفون السماء ولعلّ أحدهم يقترب منك على حين غرّة ليقول لك: «سأفشي سرّاً لا يعرفه سوانا»، ولك أن تتخيّل السرّ الذي يجاور الاثنين ويلتقطه حلّاق الحارة «الثرثار» ليقنع به زبوناً هارباً، أو ضجيج قطط الحيّ في انتظار فتات اللحوم من عجوز لا نعرف عنها سوى نعوة ألصقت ـ على عجل ـ بباب بيتها العتيق! فلا عزاء للقطط… إنها لا تقرأ… ولا تعرف.
أليست المفارقة هي الأخت الشقيقة للنكتة؟
أما وقد ابتدأت سياحتي إلى الضحك الأسود، من دون فواصل درامية تفضي للإعلان عن سلعة جديدة، ربما تباع لمن هم في المرّيخ، فمن سيثبت أنه تسيطر عليّ حالة من الغمّ، كما لم تسيطر على المبدع الراحل ممدوح عدوان إبان عمله في وزارة الإعلام واطّلاعه على عدد من الصحف والمجلات، ليتتبّع الوضع الثقافي العربي آنذاك، فقد وجد ـ عدوان ـ ذاته في إثر مطالعات مبهجة قادمة إليها جملة عناوين وسياقات تصدّرت تلك المطبوعات، ولكم أن تتخيّلوا كم هي مبهجة حقاً، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر: «أن الشعر العربي يشهد مرحلة انحسار..، إن ما تشهده الساحة العربية من ارتداد وردّات وتشرذم، وفرقة وتنابذ واضطراب، تجاوزت إلى البنى التحتية للمجتمع، وبخاصة بعد الجفاف الذي طاول المؤسسة الثقافية في معظم الأقطار العربية»، وينقل عن المرحوم الفنان الكبير وديع الصافي ما قاله يوماً: «إن لكلّ عصر كبوة، وكبوة هذا العصر، هو الغناء السائد»! وسطور أخرى في إثر عناوين سريعة: «إن تبنّي مثقفينا الأيديولوجيات الأخيرة، لم يجيء نتيجة إيمان متعقّل بصلاحيتها، إنما نبع أساساً من تزعزع ثقتهم بتراثهم»، وأيضاً: «صحف الخليج تنشر رسائل بمثابة إعلانات بتوقيع يهودي اسمه أبراهام يرّوج فيها لفتيات من الجنس الأبيض، مرشّحات للزواج ومخلصات للحياة الزوجية»!
وبمرور عشرين سنة ونيّف عما اقتطعه ـ ممدوح عدوان ـ عن سطور وعناوين صوّرت «غمّ» كتابها، أجدني في إثر عناوين مثل: «هل ينجح مهرجان دبي السينمائي في تصحيح صورة العرب المشوّهة؟»!
فهل ثمة سرّ في ثبات الوضع الثقافي العربي، لكأن «السائح» في عناوينه وسطوره، كمثل من يحضر فيلماً مرّتين، أو كمثل كاتب أهدى خطأ صديقه نسختين من روايته، وعندما سأله مستفسراً عن روايته هل أعجبته، ليقول له ذلك الصديق أنهيت الجزء الأول، وأعدك بقراءة الجزء الثاني!
وللغمّ، صور تلبّست الكتابة، حتى وكأنها ـ المسكينة ـ الكتابة لفرط ما رأت أن الزمان ينثال داخل أكواب الزجاج المتعاكسة، خشيت أن يصير حبرها رملاً، فالرمل لا يبني بيتاً، ولا يصنع مواطئ قدم لطير.
كان هاجس الراحل ممدوح عدوان، أن حالة الغمّ، لم يعد ينفع معها الضحك المفتعل أو الانخراط القسري في أجواء الأصدقاء، ولعله هاجس مردّه متابعة مجلات وصحف عربية أخذت الضحك على محمل الجدّ، فهي لم تُرِدِ الإضحاك بقدر ما أرادت الذهاب إلى فضيلة التجهّم، التي تخفي تحت جلدها ضحكات مكتومة قد لا تجد طريقها إلى السياحة، لكنها تتفلّت لتسردها الأصابع في محاولات قبضها على الزمن، سياحة تحيل على التأمل، الابتسام، الضحك، لتستدعي الذاكرة ما ينقصها، وثمة من يستدعون الذاكرة ذاتها، لفائض ما يرون من خيال، ولسان الحال: «ربّ واقع يجيء لينجو ضحكنا منّا، فلا يضطر ـ مثلاً ـ صحافيّ يخجل من حمل صحيفته ليخبئها بصحيفة أخرى!».
ناقد وأديب فلسطينيّ سوريّ