لا صوت في سورية يعلو على أولويّة مكافحة الإرهاب وتحقيق المصالحات المحليّة
بعد فشلهم في تحقيق مخططاتهم لإركاع سورية وإخضاع المنطقة العربيّة لأطماعهم، يقوم أعداء سورية بلملمة أوراقهم وإعادة حساباتهم ورسم سياساتهم لمواجهة الصمود السوري في المرحلة المقبلة. وقد أصبح أمراً معروفاً لشعبنا وشعوب المنطقة والعالم، أنّه عندما يصل أصحاب المخططات إلى النهايات الحتميّة المسدودة والتي لا أفق لنجاحها، فإنّهم يلجأون إلى سياسة الصخب الإعلامي للتغطية على فشلهم إضافةً إلى تصعيد التهديدات الفارغة المملوءة بالنفاق وتضليل الجماهير وخلق أجواء التوتّر الوهميّة.
بعيداً عن المخاطر التي تشكّلها التطورات التي شهدتها منطقتنا مؤخّراً والتي تمثّلتْ بقيام ما يُسمّى بداعش «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» بقطع رؤوس صحافيين أميركيين وعامل مساعدات إنسانيّة بريطاني، وما أحرزه هذا التنظيم الإرهابي في شمال سورية والعراق، فإنّ معالجة جذور مشكلة الإرهاب وفهم أسباب قوّة التنظيمات الإرهابيّة في المنطقة يبقى هو السؤال المطروح. والأهم من ذلك هو أنّ لا تشغلنا هذه المواجهات بشكلياتها وجغرافية تحركاتها عن الاستمرار في اتباع النهج المبدئي لمواجهتها وتحديد أولويات العمل الوطني والإقليمي والدولي للتصدي لها. ودونَ ذلك سيرتكب كل من يبذل جهداً لوضع حد لما يجري خطأً كبيراً إن هو أراد معالجة ما يجري وخصوصاً وضع حد للإرهاب وشروره.
لستُ مضطراً في هذا المقال لتوسيع دائرة تحليل ما نمر به للتركيز أيضاً على ما يجري في العراق ولبنان وشبه الجزيرة العربيّة وخارج المنطقة، بل أنّني سأكتفي بمعالجة ذلك في الإطار الوطني السوري. وإذا تابعنا التصريحات الأميركيّة الناريّة والانفعاليّة والاجتماعات الصاخبة لمؤسسات صنع القرار الأميركيّة، فعلينا أن نلاحظ ما ترسمه وتخطّط له الإدارة ومجلسا النواب والشيوخ الأميركيان يأتي كرد فعل على تطورات ما كان لها أن تحدث أصلاً لولا غياب العمل الأخلاقي والتحليل العقلاني لطبيعة ما يجري، أو بالأحرى لولا خروج بعض عناصر اللعبة التي كانتْ تسير وفق نبض تتحكّم به وتضبطه أطراف لها مصلحة مباشرة بما حدث ويحدث. وهنا، لا أريد الغوص أكثر من ذلك لأنّني لستُ من هواة الوصول إلى استنتاجات متسرعة. كما أنّ التعامل السياسي مع أسئلة افتراضية، قد يحمل في طياته خطر الوقوع في مطبات لا تخدم إلاَّ الجانب الخطأ.
المهم الآن هو وجود إجماع دولي، ولو أنّه ما زال شكليّاً، على مكافحة الإرهاب كأولويّة لكل أرجاء العالم، صغيرها وكبيرها في شمالها وفي جنوبها. وإذا كنّا نشجب بقوّة أفكار البعض من الذين تآمروا على سورية في تحليلهم الخاطئ والمنحرف لما يجري في سورية على أساس تحميلها مسؤولية إذكاء الإرهاب وتصعيده، فإنّنا لا يمكن أن نقبل من هؤلاء استغباء تفكيرنا وفرض رؤيتهم الحمقاء في تفسير ما حدث لأنهم كانوا قولاً وفعلاً من أجج نيران الإرهاب وشجع الإرهابيين على ما قاموا به. إنّ قطع داعش وأخواتها في جبهة النصرة وما يُسمّى الجيش الحر والجبهة الإسلاميّة لرؤوس المئات من السوريين والعراقيين «وإقامة الحد» أمام نظر كل العالم على كل من خالفَ هؤلاء في قواعدهم الدموية وإجرامهم البغيض لم يكن ليتم لولا تواطؤ الغرب وأتباعه العرب وأدواته السوريّة الممثّلة بشكل أساسي، بما يُسمّى الائتلاف آخذين في الاعتبار أنّ الدين الذي تؤمن به داعش لا شيء فيه من أدياننا السماويّة التي آمن بها البشر من عهد آدم مروراً بالمسيحية والإسلام. كل ذلك الذي قلناه وكررناه لم يلقَ من هؤلاء الذينَ يتبجحون اليوم حول إجرام داعش وما ارتكبته من فظائع أي اهتمام، بل أنهم والمعارضة الخارجيّة وفروعها الإرهابيّة في الداخل هم الذين قاموا بالعوم في بحر هذا الإرهاب الذي كان يخدم مصالحهم آنذاك والآن.
إنّ التدخّل السافر للدول الغربيّة وعملائها في المنطقة في الشؤون الداخليّة السوريّة ومحاولتها إحداث تغيير في النظام الوطني القائم في سورية بعد نجاحهم في إحداث هذا التغيير في دول عربيّة أخرى في إطار ما أسموه «الربيع العربي» وفشلهم وفشل ربيعهم العربي التام فيما أرادوا فرضه لخدمة أغراضهم الاستعمارية هو أصل البلاء. فكل ما حاول هؤلاء العمل من أجله وسخّروا كل الأدوات الدمويّة لتنفيذه في سورية هو نزع شرعيّة الدولة وتفكيك مؤسساتها وإظهار الشعب السوري بمظهر الضعيف الذي يقبل بما يجلبه الخارج عليه ليخلق هؤلاء بعد إنجازهم لمشاريعهم الساقطة مبررات التدخّل الخارجي بذرائع مختلفة. وكانَ لهؤلاء ما أرادوا إذ اعتمدوا في توجهاتهم على عاملين لا أخلاقيين اثنين. كان أوّل العاملين هو الاعتماد في تنفيذ ما أرادوا على الفئات الساقطة والفاسدة وذات التاريخ الإجرامي اللا وطني في الداخل، والعامل الثاني كانَ إغراق هؤلاء العملاء بالمال والسلاح والابتزاز ودفعهم لممارسة الإرهاب بكافّة أشكاله للوصول إلى هدفهم الدنيء المخالف لقواعد القانون الإنساني الدولي والشرعيّة الدوليّة بما في ذلك اتفاقيات ويستفاليا التي تمّ التوصّل إليها في القرن الثامن عشر.
وهكذا، فإنّ ما جرى في سورية لم يكن مطالب محقّة لشعب مضطهد ولا تظاهرات حملتْ مطالب بالحريّة والديمقراطيّة، بل كان هذا مخطّطاً كبيراً للمنطقة بأسرها لن يقف عند الحدود السوريّة، وكم كان بودّنا وجود معارضة وطنيّة ديمقراطيّة تفهم ذلك. وإذا كان البعض لا يؤيّد ما ذهبنا إليه، فليحاول إقناعنا بأنّ ما يحدث في العراق وفي لبنان وفي فلسطين المحتلّة، وما حدث في ليبيا ويحدث في اليمن لا يرتبط ببعضه وأنه لا ينبع من مصدر واحد! قد نقبل بمنظور الصدفة أحياناً، لكن عندما تصبح القاعدة هي تشابه أهداف وأغراض هذه التطورات ودوافعها والقوى التي تقف خلفها، فإنّه سيكون من الصعب جدّاً أخذ الأمور ببساطة وسذاجة.
إنّ تعبير: «قل لي من تصاحب، أقل لك من أنت»، ينطبق هنا على القوى التي تحالفتْ لتدمير بلدنا. فهل صدفة أن نرى أن التكتّل الغربي المتصهين وعملاءه من الدول الخليجيّة وأدواته السوريّة والمصريّة الإخوانية واللبنانيّة والليبيّة هي التي تدعم هذه التحولات، على رغم كل الخلافات داخل هذا التكتّل؟ لقد تساءل الرئيس بشار الأسد، رئيس الجمهوريّة العربيّة السوريّة، في خطاب القسم بتاريخ 16/7/2014، حول ذلك قائلاً: أليس ما نراه في العراق اليوم وفي سورية وفي لبنان وفي كل الدول التي أصابها داء الربيع المزيّف من دون استثناء هو الدليل الحسّي الملموس على مصداقيّة ما حذرنا منه مراراً وتكراراً … وقريباً سنرى أنّ الدول العربيّة والإقليميّة والغربيّة التي دعمتْ الإرهاب ستدفع هي ثمناً غالياً.
وانطلاقاً من فهم سورية وقائدها لكل ما سبق وقلناه، وأشياء أخرى لم نقلها، ومن رؤية وفهم واضحين للمخطّط المرسوم ضد سورية والعرب منذ الأيام الأولى للعدوان عليها وعلى شقيقاتها الدول العربيّة الأخرى حيث تقرّر سوريّاً السير في مسارين متوازيين وهما ضرب الإرهاب من دون هوادة والقيام بمصالحات محليّة لمن يريد العودة عن الطريق الخاطئ. وإذا أراد البعض العودة إلى توثيق هذا الموقف والخطّة المتكاملة التي رسمها الرئيس الأسد للخروج من المشكلة فعليه العودة إلى خطاب الرئيس الأسد بتاريخ 6/1/2013، والذي قدّم فيه سيادة الرئيس صياغة موضوعيّة ومقنعة لسبل الخروج من هذه الأزمة التي فرضتها الدوائر المعادية على سورية وعلى الدول العربيّة الأخرى.
لقد كتب الكثير عن المعارضة السوريّة بأقلام غربيّة وعربيّة وسوريّة، إلاَّ أنّ أغلب ما دبّجته الأقلام الصديقة للمعارضة كانَ بعيداً عن الموضوعيّة والمنطق والواقع والتفكير السليم ناهيك عن المبالغات حول المعارضة ودورها. وأنا هنا لا أكتب كمسؤول، بل كمواطن يرى ما يدور حوله. ولا أبالغ إذا قلت أنّه لا توجد في سورية معارضة بل توجد معارضات. وتعرف هذه المعارضات أنّها مفتتة ولم تصمد أمام أي من التحديات التي تواجهها بلادها. لا أريد أن أنزع صفة الوطنيّة والموضوعيّة عن بعض المعارضين فذلك خطأ أيضاً، لكنني أؤكّد أنّ ما نسمعه من كلام من قبل بعضهم نيابةً عن معارضة وجماهير وباسم الشعب السوري من هؤلاء قد لا يعبّر في الكثير من الأحيان حتّى عن تنظيمه ذي الطبيعة المجهريّة، كما أنّه لا يعبّر في كثير من الأحيان عن كل أفراد عائلته المباشرة. أمّا في البعد الوطني، فلا أعتقد أنّ أيّة معارضة في العالم وصلَ بها الحد إلى استدعاء واستجداء التدخّل العسكري الأميركي والغربي والمتعفن من دول الخليج لقصف بلاده وتدميرها وقتل مواطنيها كما فعل هؤلاء وما زالوا في التوسّل لدى الآخرين لمثل هذا التدخّل! والاستنتاج البسيط هذا، يثبت أنّه لو كان لهؤلاء أتباع ومؤيدون يعتمد عليهم لما طلبوا مثل هذا التدخّل. ألم يكتفِ هؤلاء بتدخلات باتت معروفة في تاريخ سورية والمنطقة والعالم ولم تجلب لبلدنا سوى النكبات التي ما زلنا ندفع ثمنها غالياً؟ وعلى رغم فشل هؤلاء في الحصول على هذا التدخّل عندما ابتدعوا ملف استخدام سورية للأسلحة الكيماوية، فإنّهم يذهبون الآن بعيداً في تصديق أنّ السعوديّة وواشنطن وغيرهما سيقومون بتدريب جيش جديد لهم في السعوديّة! إنّ ما يسعى هؤلاء إليه هو قتل مزيد من السوريين وإطالة أمد الحرب على سورية وجعل شباب سورية كبش فداء لمخططات إسرائيل وحماتها لأهداف يفهمها حتّى الأغبياء.
إنّ تجربة الجبهة الوطنية التقدمية في سورية والتي تعترف الأحزاب المكونة لها بالحاجة إلى تطويرها وإغناء تجربتها والاستفادة من الأخطاء التي واكبتْ أحياناً مسيرة عملها، أثبتت قيمة التعدديّة السياسيّة في سورية وإمكانيّة تطويرها للعمل الديمقراطي. كما أنّ الأحزاب الجديدة التي تمّ ترخيصها في سورية وبدأتْ تُمارس عملها الجماهيري في إطار القانون كأحزاب معارضة، جوانب تثبت أنّ سورية تؤمن بالتعدديّة السياسيّة وبالرأي والرأي الآخر. فأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية شريكة أساسيّة في الحكم منذ تأسيسها قبيل منتصف السبعينات من القرن الماضي. والشيء الذي يجب أن يعرفه كل مهتم بالشأن السوري هو أنّ أصغر حزب من حيث قوّة تمثيله وتواجده الدوري من بين أحزاب الجبهة الوطنيّة التقدمية والأحزاب التي تمّ الترخيص لعملها مؤخّراً والتي يصل عديدها الآن إلى حوالى الخمسة عشر حزباً، يزيد بعشرات المرّات على الأحزاب التي تُمارس دورها خارج سورية وخارج القانون ما عدا فصيل واحد من هذه المعارضة الخارجيّة المسلّحة والذي حكم عليه شعب سورية بالخيانة منذ بداية الثمانينات من القرن الماضي ولم يعد له أي تأثير يُذكَر.
عندما تأسس ما يُسمّى المجلس الوطني السوري في اسطنبول بعد اندلاع الحرب على سورية من خلال ضغوط قامت بها الولايات المتحدة وبعض الدول الغربيّة وتركيا وقطر والسعوديّة، سقط هذا التجمّع وانتهى كما بدأ بتعليمات من وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون. كما أنّ الشعب السوري لم ولن ينسى توبيخ السفير الفرنسي أريك شوفالييه لأزلامه في هذا المجلس المعارض عندما عاملهم كأطفال وقال لهم: «أنتم لا تستحقون دعمنا ولستم قادرين على القيام بأي شيء»، وكان ذلك مسجلاً تلفزيونياً من دون علم أو ربما بتعليمات منه لإهانة مثل هذه المعارضة على الملأ. وعندما عاد أسياد هذه المعارضة السوريّة وأسّسوا في الدوحة ما أسموه بالائتلاف السوري لقوى الثورة والتغيير، واختلف مؤسسوه من الدول الممولة له وخصوصاً السعوديّة وقطر على أي من أزلامهم سيقود هذا الابن المسخ، وجد هذا الائتلاف نفسه مرّةً أخرى ممزقاً في ولاءاته وممزقاً في مواقفه. وبالمناسبة لسنا نحن الذين نقول كل ذلك، بل أصحاب هذا الائتلاف في السعوديّة وقطر وباريس… الخ هم الذين يتحدثون عن ذلك بشكل مكشوف. وأكرّر أنّ من يقول ذلك لسنا نحن، بل هم أعضاء في قيادة هذا الائتلاف من الذين انقلبوا على بعضهم في مسرحية توزيع الأموال والدولارات والسياسات والمرجعيات.
المشكلة الأساسيّة في المعارضة السوريّة هي التشتت من جهة وعدم وجود معارضة سياسيّة يمكن الثقة بها وبصفتها التمثيلية من جهة أخرى. لقد أصرتْ القيادة السوريّة والأصدقاء الروس قبل مؤتمر جنيف على تمثيل المعارضة أو المعارضات السوريّة في وفد ذي صفة تمثيلية «ووازنة» للتباحث مع الحكومة. إلاَّ أنّ أصحاب الائتلاف رفضوا ذلك بشكل قاطع وقالوا إنّ هذا الائتلاف هو الذي يمثّل المعارضة وفرضوا ذلك على رعاة المؤتمر وعلى الأمم المتحدة، كما حاولوا فرض جدول الأعمال الذي تمثّل بالنسبة لهم بنقطة واحدة هي إيجاد هيئة انتقاليّة للسلطة. وفي الوقت الذي لا بد أن نؤكّد فيه أنّ وفد الجمهوريّة العربيّة السوريّة لم يذهب إطلاقاً إلى جنيف لتسليم السلطة وأنّه لم يفكّر بذلك ولو لثانية واحدة، وما زال كذلك الآن، فإنّ المعارضة جاءتْ فارغة اليدين إلى جنيف إلاَّ من شبقها لاستلام السلطة الأمر الذي دفعها إليه أسيادها الأغبياء.
وفي الوقت الذي لا بد أن نؤكّد فيه أنّ المعارضة أو المعارضات الداخليّة عملتْ لأخذ دور في جنيف من خلال اقتراح صياغات لشكل وفد المعارضة، إلاَّ أنّ هذه المعارضة كانتْ وما زالتْ تُعاني من انفصام حقيقي في تعاملها مع الشعب السوري والطريقة التي تراها للخروج من الأزمة. لكن الخلاف معها يكمن في أنّها أصرّتْ أن لا تختلف كثيراً في معارضتها عن معارضة الخارج من خلال طرحها لشعارات وأفكار لا ترتقي إلى مستوى التحديات. لكننا نسجل لأغلبيتها رفضها للتدخّل الخارجي أو الغزو الأجنبي لبلدها. إلاَّ أنّ موقفها ممّا يُسمّى المرحلة الانتقاليّة بقي جامداً ولا يختلف كثيراً عن طروحات غربيّة ومبالغات غير منطقيّة في فهمها لما يجري في البلد بما في ذلك عدم إدانتها للمجموعات المسلّحة التي اعتبرتْ بعضها قريباً منها لأنّه يخدم مصالحها الضيقة. وبرّرتْ في نهاية الأمر العنف الذي لا يوجد بينه وبين الإرهاب فرق كبير. ومن جهة أخرى، فقد كان النقد الذي وجهته هذه المعارضة الداخليّة وما زالتْ لبعض الإجراءات التي اتخذتها الدولة لحفظ الأمن والنظام ومكافحة الإرهاب غير بعيد كثيراً عن موقف الائتلاف. أمّا الخطأ الكبير الذي ارتكبته هذه المعارضة الداخليّة، فكان إصرارها المستمر حتّى الآن، وعلى رغم وضوح ارتباط هذا الائتلاف بـ»إسرائيل» وبالإرهاب على الوصول إلى تفاهمات مع الائتلاف وسلفه المجلس الوطني السوري على حساب موقف وطني حقيقي يدعو إلى حوار وطني ينهي الإرهاب وسفك دماء السوريين والتدخّل الخارجي الغربي والخليجي في شؤون سورية. إنّ اعتقاد بعض أطراف المعارضة الوطنيّة أنّ بقاءها إلى جانب المعارضة الخارجيّة قد يعطيها مزيداً من الجماهيريّة وورقة قوية في التفاوض مع الحكومة، هو أمر غير واقعي ويضر بها وبمواقفها. كما أنّ الاتصالات والزيارات التي تقوم بها إلى دول صديقة أو غير صديقة لسورية وتظهر فيها عداءها للموقف الوطني يضر بها وبالمصلحة الوطنيّة.
لم يفهم بعض المعارضين حتّى الآن أنّ سورية قد تغيرتْ كثيراً بعد الانتخابات التي أقبل عليها شعب سورية بالملايين خارج سورية وداخلها. وما زال البعض حتّى الآن يتحدّث زوراً عن ضرورة تلبية تطلعات الشعب السوري، فعن أي شعب سوري يتحدثون؟ لقد عبّر الشعب السوري عن تطلعاته بصورة مشرّفة في انتخابات أيار وحزيران الرئاسيّة ولن يقبل من أي جهة كانتْ التلاعب في وعيه وفي قراره الذي مارسه بأبهى أشكال الديمقراطيّة من خلال صناديق الانتخابات، فهل يفهم هؤلاء ذلك، أم أنّ عقلهم لم يستوعب قرار الشعب السوري بعد؟
المهم دائماً في أيّة معارضة، كما هي الحال في الدول التي توجد فيها معارضة حقيقية، هو وجود نهج سياسي إزاء قضايا الوطن والتحديات السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والحقوقيّة والدستوريّة والتشريعات الداخليّة ومؤسسات الدولة. فالدور الحقيقي لأيّة معارضة قادرة على فهم أبعاد ومعاني تبادل السلطة والحفاظ على وحدة البلاد وسيادتها واستقلالها هو وجود رؤية دستوريّة وفكريّة لإغناء الحياة الفكريّة والإيديولوجيّة في البلاد. لقد نظرنا بكل حزن إلى كثير من الاجتماعات التي نظمتها ومولتها مؤسسات غربيّة لما يُسمّى بالمعارضة السوريّة يقوم بها هؤلاء الأجانب بصياغة دساتير وقوانين وعدالة انتقاليّة لسورية وكأن السوريين عاجزون عن صياغة دستورهم وعدالتهم الانتقالية وهي عبارة عن دعابة غربيّة ومراهقة في العمل السياسي، علماً أنّهم أحفاد أقدم حضارة في التاريخ، ففي سورية وجدتْ الأبجديّة الأولى في العالم في أوغاريت. هل يعرف هؤلاء تاريخ بلدهم؟ في ذلك الوقت الذي كان يجلس هؤلاء السوريون في هذه الاجتماعات كمراقبين لما يجري وتملى عليهم الأوامر والتعليمات التي لا علاقة لها من قريب أو بعيد بشعب سورية واهتماماته، هل كان هؤلاء يفكّرون بكرامتهم وشرف أمتهم؟
من المؤسف والمحزن أنّه بعد أن استباحتْ قطعان الإرهابيين القتلة أرضنا في سورية والعراق بدعم من داعمي الإرهاب أن نرى أن من يسمّون أنفسهم بالمعارضة ما زالوا مصرين على نهجهم العدمي المذل في التعامل مع ما تمر به سورية. وإذا كانوا قد ادعوا خلال فترة ما أنّ بعض المجموعات المسلّحة ترتبط بهم، فإنّه ثبت أنّه لا توجد للائتلاف، على الأقل، أيّة تأثيرات تذكر على المجموعات المسلّحة سواءً كان ذلك ما يُسمّى الجيش الحر أو المجموعات الإرهابيّة الأخرى. وقد أدّى عمل هؤلاء السياسي وارتباطاتهم للتسويق لكل المجموعات الإرهابيّة والإرهابيين الأجانب وحشدهم وتأمين مبرّر لقتلهم للسوريين وسفك الدماء والتدمير الذي ميز التحالف اللاأخلاقي بين الائتلاف ومكوناته من جهة والمجموعات الإرهابيّة المسلّحة من جهة أخرى.
وفي إطار إمعان الدول الغربيّة في إهانة حلفائها في التحالف، فإنّ هذه الدول لا تستخدم هؤلاء إلاَّ في إطار الصور التلفزيونيّة والاستعراضات السياسيّة، أي أنّ هذه المعارضة أو المعارضات أصبحت مستعدّة لتأجير نفسها لمن يدفع أكثر. إنّ أكثر ما نسمعه عن هذه المعارضة هي الفضائح حول من يملك المال والتحكّم في صرفه أو الغنى الفاحش الذي أصاب البعض، أو الفقر الذي أصاب بعضهم الآخر لأنّهم غير موثوق بهم من السعوديّة وقطر. وهكذا نفهم خطورة قرار الإدارة الأميركية بتقديم الدعم المالي والعسكري لما أسموه «المعارضة السوريّة المعتدلة» وهذا بالطبع يشمل فئات سيتم تدريبها في السعوديّة وأماكن أخرى، كما سمعنا، لمحاربة داعش والدولة السوريّة، الأمر الذي سيؤدّي إلى وقوع هذه المعارضة في مستنقعات الإرهاب وأجندات الدول الحاقدة على سورية ومواقفها. وهنا يحق لنا أن نسأل من الذي باع الصحافي الأميركي سوتلوف إلى داعش، أليس هم حلفاء الائتلاف والولايات المتحدة؟ كما يحق لنا أن نسأل ألم يكن الجيش الحر وغيره هم الذين سلّموا أسلحتهم الأميركية لداعش أو أليس هم الذين باعوا هذه الأسلحة لداعش؟
وسط كل هذا الصخب والضجيج الدولي حول أولويّة مكافحة داعش والإرهاب، وبعد غياب وسبات لائتلاف الدوحة، يعود الائتلاف فجأة إلى طرح استمرار مؤتمر جنيف لإعادة الحياة لفكرة هيئة الحكم الانتقالية. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: عن ماذا يتحدث هؤلاء؟ وأين هؤلاء من تطلعات الشعب السوري التي يتحدثون عنها أحياناً؟
هنالك الآن أولويتان لا ثالث لهما للتوصّل إلى حل للأزمة السوريّة وهما مكافحة الإرهاب والعمل على تحقيق مزيد من المصالحات المحليّة. إنّ مكافحة الإرهاب تستدعي أن تقوم كل الدول بما في ذلك السعوديّة وتركيا وقطر والدول الغربيّة بوقف تمويل أو تسليح أو إيواء أو تمرير المجموعات الإرهابيّة المسلّحة إلى سورية وإلى العراق. ونعتقد أنّه لا يمكن للمعارضة السوريّة، إذا كانتْ سورية حقّاً، أن لا تعمل في هذا الاتجاه. وإذا كان قادة بعض الدول وخصوصاً في الخليج وتركيا الذين اتخذوا من إمداد المجموعات الإرهابيّة المسلّحة ودعمها بالمال والسلاح، قد بدأوا بإنكار ما كانوا يقومون به لإنقاذ رؤوسهم، علماً أنّ الإنكار شيء طبيعي، لأنّه دفاع عن النفس، فإنّه حري بمن يسمي نفسه معارضة سورية أن يستدير ويتراجع عن مواقفه في دعم الإرهاب. ويجب على كل من يود إنهاء الإرهاب في المنطقة الابتعاد عن استخدام مصطلحات «معارضة مسلّحة معتدلة» أو معارضة غير معتدلة، فكل من يحمل السلاح في بلده وضد أبناء شعبه هو إرهابي ولا توجد أسماء أخرى لوصفهم غير ذلك. وإذا كانتْ الولايات المتحدة صادقة في اعتماد قرار صارم ضد الإرهابيين الأجانب في القمّة المقبلة لمجلس الأمن، فإنه عليها العمل مع أقرب حلفائها الغربيين والخليجيين وتركيا لوقف ذلك بما يضمن تجفيف منابع الإرهاب ووقف استمراريته في القتل في سورية والعراق ولبنان وأجزاء أخرى من العالم. ويجب وقف التحريض على الإرهاب والتعبئة الإعلاميّة ضد سورية لأنّ هذه الدعاية هي التي دفعتْ الإرهابيين الأوروبيين وغيرهم على الالتحاق بصفوف القتلة في سورية والعراق. وعلى كل من يود الانضمام إلى مكافحة الإرهاب أن يحاسب كل المجموعات الإرهابية، فلا فرق بين داعش وجبهة النصرة والجيش الحر أو الجبهة الإسلامية وشقيقاتها الأخرى.
أمّا الأولويّة الثانية فهي تشجيع ودعم تحقيق المزيد من المصالحات الوطنية في كل أنحاء سورية، وقد عاد الكثير من الشباب المغرر بهم من الذين تمّ تضليلهم دينياً وإيديولوجياً إلى حضن الوطن. ويتابع السوريون بارتياح كبير المصالحات التي تتم بحماسة هائلة على رغم المخاطر التي بدأتْ تواجه بعض المصالحات في المناطق التي تنتشر فيها داعش والمجموعات الإرهابيّة المسلّحة الأخرى.
وفي خطابه التاريخي بتاريخ 16/7/2014، قال الرئيس الأسد:
لقد كنّا منذ البداية على قناعة تامّة أنّ الحلول الناجعة هي حلول سوريّة بحتة، لا دور لغربي فيها إلاّ إذا كان داعماً وصادقاً… وكثيرون هم من ألقوا السلاح وعادوا وقاتلوا مع الجيش واستشهدوا دفاعاً عن الوطن… وأكرّر دعوتي لمن غرر بهم أن يلقوا السلاح، لأنّنا لن نتوقّف عن محاربة الإرهاب وضربه أينما كان حتّى نُعيد الأمان إلى كل بقعة في سورية… «فالحل السياسي» كما يُسمّى اصطلاحاً، يبنى على المصالحات الداخليّة التي أثبتتْ فاعليتها في أكثر من مكان…
إنّ الاستمرار في سفك الدماء واستنزاف الإرهاب لسورية يجب أن لا يستمران شرطاً بيد المعارضة للعودة بسورية إلى الأمن والاستقرار، كما طالبَ ائتلاف الدوحة ورعاته خلال جولات جنيف، كما أنّ الانتصار على الإرهاب يجب أن يكون انتصاراً لكل السوريين معارضة وموالاة. وقد تمّ خلال المحادثات التي أجريتْ مؤخّراً بين القيادة السوريّة والمبعوث الخاص الجديد للأمم المتحدة إلى سورية ستيفان دي ميستورا التوافق على هذه الأولويات على أن يتم البحث أيضاً عن إيجاد إطار سياسي في الوقت المناسب يقود إلى الحل الذي يلبّي طموحات الشعب السوري الحقيقية. وفي هذا المجال، قال الرئيس الأسد في خطاب أدائه اليمين الدستوريّة:
المصالحات الوطنيّة لا تتعارض ولا تحل محل الحوار الوطني الذي بدأته الدولة مع مختلف القوى السياسيّة والحزبيّة والفعاليات الاجتماعيّة وستستمر به بانفتاح باتجاه كل الأفكار، فهو الأشمل ولا يرتبط بالظروف الراهنة التي تمر بها البلاد، بل هو حوار حول مستقبل الوطن وشكل الدولة في كل المجالات من دون استثناء. ويناقش فيه كل ما يرتبط بالأزمة أو لا يرتبط بها، ما سبقها أو ما نتج منها…
إنّ استمرار مراهنة البعض على التدخّل الخارجي لم يعد منطقيّاً، ولا هو مقبول أخلاقيّاً. وأنّنا في الوقت الذي نحترم فيه ضرورة وجود المعارضة ونؤمن بها لبناء مستقبل سورية التعدديّة، فإنّنا نعرف حجم المعارضة أو المعارضات جيّداً، فإنّه أصبح من مصلحة جميع السوريين الالتفاف حول ما هو خير وطيب لبلدهم والذي يتمثّل الآن في مكافحة الإرهاب وتحقيق المزيد من المصالحات المحليّة في كل أرجاء سورية. فسورية لا ينقذها من إمكانيّة ضياع سيادتها واستقلالها إلاَّ الإيمان بجيشها الوطني لأنّه الحامي الوحيد لعزتها وكرامة شعبها لأنّ من يصدقون النوايا الأميركية بمحاربة داعش والجيش السوري لم يعد لهم مكان في سورية. وقد رحّبتْ سورية خلال الأشهر الماضية بعودة الكثير من أبنائها ممن اقتنعوا أنّ نار الوطن أشرف لهم ألف مرّة من جنّة الأعداء، إذا كان هناك من جنات لدى الأعداء. والأهم من ذلك كلّه هو انكشاف الوجه الحقيقي لبعض المعارضات الساقطة التي تعرّى ولاؤها وعمالتها لـ»إسرائيل» العدو الذي يحتل أرضنا في فلسطين والجولان وجنوب لبنان. إنّ يد «إسرائيل» المغروسة في كل ما تمر به الدول العربيّة واضحة كل الوضوح. ومن لا يصدّق ذلك حتّى الآن عليه أن ينظر في العلاقة بين «إسرائيل» وهذه المنظمات الإرهابيّة التي تنام بارتياح في الحضن «الإسرائيلي» الدافئ، من دون خجل. ولينظر هؤلاء إلى المرآة، وأضمن لهم رؤية الحقيقة!
لقد وصف أحد معارضي اسطنبول الوضع في ائتلافه قائلاً: «إنّ مؤسسات المعارضة السياسيّة فاشلة وفاسدة وفاقدة لقرارها الحر» ونحن لم نكن بحاجة إطلاقاً لقراءة ذلك حتّى نتعرّف إلى الواقع الحقيقي لهذا النوع من المعارضة سواءً كانتْ في اسطنبول أو باريس أو في الدوحة وواشنطن وغيرها.
جيشنا الباسل، الجيش العربي السوري، يسطّر أروع البطولات في حربه على الإرهاب وعلى كل من يتطاول على سيادة سورية وحرية شعبها وتاريخنا المجيد، والآلاف من شهدائه الذين دفعوا ضريبة الدم الطاهر كي تعيش سورية وأجيالها القادمة، أن يعي ولو متأخراً خطورة الاستغراق في مخططات أعداء سورية بعيداً عن الانتقام والحقد الأسود الذي أعمى بصيرة الكثير. وعندما يتوقّف تدفّق الإرهابيين الأجانب والدعم الذي تتلقاه المجموعات الإرهابية المسلّحة من «إسرائيل» ودول الخليج والدول الغربيّة، فإنّ الجيش العربي السوري يتكفّل بالقضاء على خطر الإرهاب الذي يواجه سورية والمنطقة. وفي هذه المعركة يشعر كل السوريين الشرفاء من كل المشارب السياسيّة والإيديولوجيّة والدينيّة بوحدتهم التي هي رمز وطنيتهم وإيمانهم بمستقبلهم. وعندما تزداد المخاطر على الشعوب وأوطانها، يزداد إيمانها بأهميّة التضحية للحفاظ على الأوطان شامخة. ولن يغفر التاريخ لأبنائه عدم استنهاض همّتهم للدفاع عن الوطن وعن عرضهم وأمنهم ومستقبلهم.
وأخيراً، لا بد من التذكير أنّ الحل السياسي لا يمكن أن يكون إلاَّ بين السوريين وبقيادة سوريّة، وعلى الأرض السوريّة، وإنّ أي حديث عن نقل السلطة وإقامة هيئة لنقل السلطة يعني في هذه الظروف، نقل هذه السلطة إلى يد داعش وشقيقاتها، اللهم فاشهد، ألا هل بلّغت؟!