«مقامات الخيبة» يتخفّف مبنى القصيدة الحداثية بمعطى النصّ المفتوح
النمسا ـ طلال مرتضى
مرّة ثانية نطالع جنساً آخر من أجناس الكتابة ـ شكّل هويته من مناهل غريبة، أوغلت جذوره نحو الملاحم والمخطوطات الأولى، بأبعادها الدينية والأسطورية ـ كإرث وأثر، مما سُمّي ما بعد الحداثة. والذي تمثّل بروّاده أمثال بارت وميشيل فوكو وآخرين. وهذا ما شرعن له القفز على جميع الأجناس الشعرية، لكسر وزحزحة حالة الرتابة التي تمفصلت بكلّ نواحي الكتابة الأدبية الإبداعية.
اللبنانية دارين حوماني، شرّعت مُنجزها الجديد «مقامات الخيبة» الذي صدر عن «دار النهضة العربية» بيروت 2016، حين ذهبت نحو السهل القصي الممتنع، لتجلي عن معطاها غبش الشبهة، بعدما دخلت مفاز حقل البوح من باب نصّه المفتوح، والذي خرج من عباءة القصيدة النثرية، والمكنّى مجازاً بـ«ابنها الشرعيّ» والذي نظر إليه عربياً، الناقد الأديب عزّ الدين المناصرة، والذي عدّ أن قصيدة النثر العربية وصلت في التسعينات من القرن المنصرم إلى درجات عالية من الشاعرية، ودرجات عالية أيضاً من النثرية، حتى أنه يمكن تسميتها بالنصّ المفتوح والكتابة الحرّة.
ومما يثري المقام قبل المقال، أنّ دارين حوماني برعت منذ المطلع الأول ـ العنوان ـ لفت متخيّل القارئ، حيث كسرت الصورة المعتادة بعدما جعلت للخيبة مقامات، هذا المجاز الذي يأخذنا نحو شعرية المكنّى واستحالته نحو لبوس الواقعية، بمعنى السؤال المنعكس تراكمياً في جوانيات القارئ.
ما تلك الحالة العجائبية التي تصنع من الوجع المتوارث قبل، قبل آلاف السنين إلى حالة من البهائية الكتابية؟ والتي لا يستطيع حمل واحتواء علائقها الداخلية والخارجية، سوى النصّ المفتوح الذي يفضي عبر أنساقه اللغوية المغايرة إلى تشكيل صور شعرية غير مطروقة، تنقر قعر خزان المتخيّل والخيال لدى قارئها الشغوف، ليس فقط لاستكناه مضمرها إنما في محاولة أكيدة للقبض على إيحائها المخبوء طيّ أكواد السرّ المطلسمة:
شجرة الزيتون المائلة
ليس هنا من يصلحها
الشمس الملقاة على أرض الدار
تدخل مرتبكة.
كذلك، حين متح من السرد ما يريد من دون أن يرضخ لشروطه، عبر غواية إشباع المقولة، بالاستعارات والإسقاطات حدّ تجيير المفردة العلمية بلغة شعرية، كما جاء في النصّ التالي بقولها:
إنني أجنّ هنا
في قلب هذا العالم المرئيّ
المشوّش في ذهني
بالأسود اجتمعوا كلّهم
في غيوم ليست عابرة
أريد أن أخرج من الهُنا
أن أعود إلى صمت الأجنّة
العالم اللامرئي
الذي إليه سنعود بعد قليل.
عروجاً على ما صرح به الناقد الفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو الذي فكّك نصوص جيمس جويس الإبداعية، عندما عدّها نصوصاً سردية لا شعرية، وأطلق عليها بالصريح «نصوص مفتوحة»، بالمقاربة هنا مع ما ادعى، نجد أنّ حوماني تساوقت مع مقولته، لكنّها ذهبت نحو تشكيل نصّها بنائياً ما يوازي ويتماهى مع مبنى القصيدة النثيرة، من حيث الاختزال السرديّ، أي تكثيف الفكرة وضبطها، بتناول لافت أي الطريقة والكيفية التي تجلّت بها نصوصها:
كمئة عام من الجثث
يصيحون من موقدة في فناء بيتي
جمعتهم على عربة خشبية
ودرت بهم أحياء القرى النائية
حيث كانوا يصبّون الدّين مع الزيت
في الأطعمة
وحيث كانوا يبيعون الأرواح النيّئة
رغم حدّة الصراخ
هكذا كان زمني يمرّ.
ثمة حالة لا تنفكّ من ملازمة الكاتب، ألا وهي أنّ الكثير من الصور والحالات التي تبقى عالقة في متخيّل الكاتب، وهي ما تُوقِعه في كثير من الأحيان في مفازات التشابه أو التدوير للمقولة، وهو الأمر ذاته الذي حدث من «النصّاص» دارين حوماني، بعدما وقعت في هذا الشرك في نصّيها الموسومين بـ: «كانت الأحرف تصطدم بالدموع». و«هل تستطيع أن تصير إلهاً؟».
حيث بدا النصّان متناسخين من بعضهما. وعطفاً على كلمة «نصّاصة» وهو تعريف ورد كثيراً في الكتب النقدية العالمية، كما ذكره عزّ الدين المناصرة كثيراً في مناظراته، وهو اسم بوزن شاعر أو راوٍ، ويصبغ به صاحب النصّ المفتوح. كقفلة أسد بها رمق المقالة الأخير، أشي بها أن «مقامات الخيبة» منجز جدير بالقراءة، على رغم حالة الخجل الذي اعترت كاتبته، عندما اقتربت من قضايا مهمة يومية في الحياة ومصيرية، تشكّل حالة مفصلية في يومياتنا، بملامسات سطحية متوجّسة متردّدة، وأعزو ذلك للرقيب الضمنيّ بحكم العادة المتوارث كحارس على بوابات المقولة.