القصائد العارية موسومة بنياشين ودكتوراة فخرية

محمد رستم

قلت غير مرّة، إن الشعر إنما هو معطى أثيري، هو فراشات ربيع تحطّ على خدود الزهر كي تلوّن الدنيا بأطياف قوس قزح. هو جدائل الشمس تنشر الدفء والحنوّ والانتعاش في براري الروح، هو ترجمة لانبعاثات البوح في شهقة الحياة، نرتحل على أنغام قيثاراته نجوب فضاءات الكون بحثاً عن عبق الأزاهير وخرائط الاخضرار. هو البوح من أعمق تنهيدة في الروح إلى أعلى زغردة في الشريان على مساحة ممتدّة في ستّ جهات الكون.

وكم كانت حروفه يمامات زاجلة بين عاشقين تنقل على أجنحة العشق نبض القلب وحرارة التوق والوله مذ كانت حواء وذاك العاشق آدم.

الشعر هو بيادر نجوم يحوك من طقوس الأحزان زغاريد عرس الحياة، هو حروف تصهل بالفرح في قلب العتمة، فيحملنا على أشرعة الأمل لتغدو أرواحنا قاب نغمتين أو أدنى من النعيم. والشاعر لم يكن يوماً إلا عرّافاً ونبيّاً، يستقطر حروفه من شريان القلب.

ذات نشاز، عمّدنا أرواحنا بالضباب وكنّا قساة فأصدرنا حكمنا المبرم، بأن الشعر إنما يصدر عن شياطين تأزّ الشاعر أزّاً، على اعتبار القول «وكلّ إنسان من البشر… شيطانه أنثى وشيطاني ذكر»، متجاهلين أنّ هذا البهاء كلّه إنما هو كحل أجنحة الملائكة تنثره في فضاءات أرواحنا التي تتوق إلى معانقة الجمال.

لذا، فالقصيدة هي ابنة الروح، تؤكدها مكنوناتها وحالة الولادة، فالشاعر عندما تحين لحظة المخاض يغيب في الحالة، إنه هو، وليس هو في آن.

وكما تخرج الروح من الروح في حالة الولادة الحياتية العضوية، كذا هي بالنسبة إلى الشعر، فتجد الشاعر في حالة قلق نفسيّ وفكريّ وروحيّ، يروح ويجيء في المكان والزمان. هو المخاض حقيقة، شيء ما ينزّ من مسام كيانه، وهو في عسر لحظة وانفراج في أخرى، قد يعرق برهة ويثلج أخرى، هو في حالة تشبه الحلم لأن الإبداع بحدّ ذاته حلم موجّه. لذا، فهو معلّق في برزخ بين الصلصال والروح يتوق إلى لحظة الانفلات.

وكما في الولادة، كذا في مخاض الشعر، قد تكون الولادة عَسِرة. فتطول المدة، وكما تعرق الأنثى وتألم، تغيب عن الوعي وتصحو وهي ترى مولودها ينسلّ من جسدها فيسكنها فرح غامر يبلسم كلّ آلامها، وتنكبّ على وليدها تضمّه تتقرّى جسده تتأكد من تمامه وعافيته. كذا الشاعر تراه يعود إلى قصيدته يحنو عليها ينقّب في ثناياها يرفو فرجة هنا ويقطّب ندبة هناك، ويمحو أي تغضّن قد يمنع بريقها وألقها. وثمة من يعتقد أن الشاعر هو من يَنْظم القصيدة، كلا وألف كلا،

عندما يَنْظم الشاعر القصيدة لا يكون المنتج شعراً، إذ ليس هناك ولادة شعرية، يكون لدينا جسد قصيدة، قصيدة ميتة نَظَمها الشاعر من فكره وإرادته الواعية، تصنّعها، هي ليست خلقاً روحياً، ليست روحاً شعرية، هي نتاج روبوت، قد تبدو جسداً جميلاً لكن لا روح فيها. التصنيع شيء والولادة الشعرية شيء آخر.

قلت، إن روح الشاعر، فكره، عاطفته، خياله، ذاكرته وجدانه، وعيه ولاوعيه، رؤاه، حلمه، حدسه، موهبته، كلّ ذرة في نبضه، كلّ هذه مجتمعة مع أثير روحه، هي من يبسط الهيكل ليسوّي خلقه ثم ينفخ فيه الروح وعندما تصير القصيدة حقيقة فجرية لا مفرّ من الترحاب المدهش بحلّتها الوردية المزهرة، لا في لحظة بصر فحسب، بل من خلال الامتداد في الزمن. ولِمَ لا؟ ألا تحمل معها جواز سفر في الديمومة؟ ديمومة اللحظة الجمالية عندها ليس عليك إلا أن تخشع، فأنت في حضرة آلهة المتعة، أنت في حضرة الشعر. ويحضرني قول أدونيس: «القصيدة عالم ذو أبعاد، عالم متموّج متداخل كثيف بشفافيته تعيش فيه وتعجز عن القبض عليها أي القصيدة تقودك في سديم من المشاعر والأحاسيس تغمرك وحين تهم أن تحضنها تفلت من بين ذراعيك كأمواج».

هكذا هي إذاً، مخلوق روحاني. لذا، صدق القول الحرف ابن الروح لا يحلّ فيه التبنّي، ولأنها مخلوق روحانيّ لا كغيره، فإنه ينفصل عن والدته بعد تمام الولادة مباشرة ليربّى وينعم بعزّ الآخر ودلاله. فالمتلقي هو حضنه الدافئ وهو من يتذوق روعة نضارته ويستمتع بريعان فتوّته ورشاقة خطوه وسلاسة أنغامه، ويستلذّ بدله ودلاله.

فيا أرباب الحرف انتبهوا إلى الولادة، فمنها يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود هذا الخيط الذي لا يخفى على العين العاشقة للشعر.

وأقول: لا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأشعرون، فكم من مرّة عانى كبار الأدباء من حمل كاذب، فكانت الولادة قسرية، جنيناً مشوّهاً، أو سقطاً، أدرج في كتب النسيان.

ولعلّ ما يستثير الشفقة، أنّ كلّ من عانى برداً أو وعكة صحّية مع توفّر أسباب السلامة والسهولة، يخال المغص ولادة. وليس عليك إلا أن تحتمل النتائج، وتستحضر روح أيوب.

كما أن اللافت في هذه الأيام التي تخيّم الحرب عليها فتسمّم هواءها برائحة البارود وتمزّق صفاءها بأزيز الرصاص، اللافت كثرة الشعراء وكأنهم يفقسون في مثل هذه الأجواء السامّة. بل كأنّ الشعر أضحى صنعة من لا صنعة له، وأذكر أن الإلمام والتشبّع بكل المعلومات المتعلّقة بالشعر كالوزن والقافية والصورة والانزياح والتكثيف والأغراض، كل ذلك شروط لازمة للشعراء لكن ذلك لا يعني أنها تجعل من يتقنها شاعراً. هي تؤهله لأن يمسك بالريشة لكن أنّى له أن يصبح فنّاناً. فالشعرية لا تخصّب إلا في رحم الموهبة. وردّاً على ذاك الذي سأل خلف الأحمر، كيف لي أن أصبح شاعراً أجابه: احفظ ألف بيت من الشعر، تصبح شاعراً!

أقول له: خانتك دقة التعبير يا صاح، قد يصبح ناظِماً بعد أن تسلس أذنه فتغدو موسيقية وتنقاد سليقته للوزن، لكنه لن يصبح شاعراً إن لم تمتلكه الموهبة التي منها وبها فقط تنمو بذرة الإبداع الشعري. فالموهبة هي من يسرج كبرياء الحرف ويروّض أعنّة الهمسات لترتقي فضاء التألق.

ومن مفرزات الحرب كذلك تعدّد المواهب، فتجد قلماً يسعى لأن يكون شاعراً ورساماً ونحاتاً وممثلاً ورياضياً ماهراً ومصمّم أزياء وراقصاً وعازفاً وطباخاً وقارئ فنجان، وعلى رأي المصريين «بتاع كلّه»، نقول له: أخيراً أنت لست ولن تكون واحداً ممّا تسعى إليه. أنت ستكون ممثلاً فاشلاً ليس أكثر.

ومن كل ناحية ثمة ناعب، صارخ: «أنا ربّ الشعر وإياي فاسمعوا»، نقول له: نحن يا ربّ الشعر في زمن تعدّد الآلهة، لقد فات زمنك وتعدّدت مصادر الإلهام ولم يعد يجمع في ورق. لقد قضى العثّ على ما تبقى من ورق أصفر. فهناك أولاً وأخيراً الإنترنت ومتفرّعاته. وكم من شاعر استطالت نرجسيته على هامش بوحه، فصار يرى حروفه، ولا أحلى وكلّ ما يتجشّأه هو الإبداع بعينه، ويستحق براءة اختراع، في حين أن الأمر لا يخرج عن مقولة «القرد في عين أمه غزال»، لأنك إذا ما غصت في بيانه تجد نفساً خاوية، تقدّم نصوصاً خارج نطاق التغطية، بمفردات مصابة بالشلل بعيدة عن مدارات الاحساس، وبعضهم يريد افتئات جماليات للقبح وتسويقها. يبغون تسميم الذائقة الشعرية، يريدون منّا أن نقبض على كمشة عصف ونصفّق لحصاد الريح، يريدون منّا أن نرتمي على أرصفة الترّهات ووهم الحقيقة المزيفة، وأنا هنا لا أبرّئ نفسي، فأزعم أني المنافح عن الذائقة الشعرية الراقية، فكم من مرّة صفّقت مع المصفّقين لنصّ هو دون المستوى المطلوب، بدافع مسايرة الجماعة، واحترام حدود الصداقة.

ومن الملاحظ كثرة الشاعرات اللاتي لا تربطهن بالشعر صِلة رحم أو عفاف، إذ تجد الواحدة منهنّ تجعل من تضاريس جسدها الشعريّ جسر عبور لحروفها فتفتح قلبها على مصراعيه ليجوب الحبيب المتخيّل ضفّتيه، تنادمه الغرام وقد تفرد خارطة الجسد في مشاهد مبتذلة، تخدش طهارة الشعر وحياءه، تحوك من تاء التأنيث لُحمة قصيدتها ومن إغواء نون النسوة سداها. وبالإحالة إلى عالم الشعر تجد أن ما بين يديك لا صلة له بالشعر، وما هو إلا خداع يراد به غواية.

ولعلّ ثالثة الأثافي ما صار يتداول هذه الأيام من «نفخ وعملقة» لكل من لثغ بحرف حتى غدا كلّ حرف قصيدة وكلّ كلمة معلّقة. وأيّ جعجعة أو كلام حتى لو كان «حبله على الغارب» هو قمّة الإبداع ويستحقّ صاحبه التكريم، لا بل الشهادات العليا، وسادت موضة منح شهادة الدكتوراه الفخرية!

وكم يبدو الأمر مضحكاً ومحزناً في آن، أن يمنح من لا يملك الحقّ، من لا يستحق وكلّ هذه الشهادات لا تقدّم ولا تؤخر لكنها تلحق الأذى بمكانة الشهادات العالية وهي أخيراً لا تخرج عن دائرة قول الشاعر: «هي نفس حرّ سُلّيت فتسلَت».

أخيراً، أقول: يا أرباب الحرف المشعّ ألقاً والمتفتّح أزاهير تضوع عطراً والملوّن الدنيا بألوان الطيف وبدائع قوس قزح… نحن الغاوون، سعادتنا أن نهيم في وديان إبداعكم وفضاءات عوالمكم نسعى كالفراشات إلى التقاط إشعاعات وهجكم، نثمل بعبق حرفكم المرتحل من أقاصي الحلم حتى سدرة الروح، وندهش لروعته وهو يطرّز على شرشف الضوء نبض القلوب لكم، لكم يا مَن تربطنا بكم صِلة رحم الحرف الحلال… لكم التحيّة.

كاتب سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى