وجه الجنوب: طرائد النثر… مرايا الشعر

أحمد علي هلال

للكتابة في تجلّياتها ـ وقوفاً ـ على لحظة الإشراق أو التنوير، أن تنفتّح لحواس من تبثّه إشارتها. الكتابة طقس حميم ما بين رعشة القلب والأصابع، إذ لا مسافة بينها.

وحينما تجلو النصّ ثقافة ملوّنة تزنّر المفردات بوهج اللغة، وألق المعنى، يسفر ذلك الفعل عن كثافة الإدهاش. ألم يبثّنا النثر كلّ طاقاته الموحية، ونحن نتتبّع خطواته، نبضه، في مرايا التلقي، علّنا نعثر عليه، تماماً كما يريد أن يعثر علينا، ذات اشتباك بدلالة تفيض في أنحاء النصوص، لا سيما نصوص الحياة، فلا قدر يستوي فيه الشعر بالنثر أو النثر بالشعر، لطالما أننا في مرايا الشعر، الشعر، ألم تدلّنا نصوص جنوب القلب، جنوب الكتابة على مواضعنا في التلقّي وخرائطنا في تلقّف المعنى؟ الجنوب هو القصيدة، القصيدة الكبرى التي راح ينثرها غير مبدع من صهره الحرف، من جوهره الكلم الطيب ليشي بالسحر الحلال، «إن من البيان لسحراً»، تلك ماهية الشعر الخالص في بحثه عن البراءة ونقاء الصوت، عن طفولة القلب وشباب اللغة، إذ لا يشيخ الحالمون بوطن الكلام، فالكلمة في المبتدأ هي وطن.

فقوافيه كلّها للشمس خبز وللصباح أجنحة الفراشات الطليقة، لتتناغم المفردات مموسقة الشدو في انتشائها لحظة خفق التراب تحت خطاهم، من ذهبوا طيّ عتمة، ليقطفوا ورد أصابعهم، وليرسموا بثمالات الدماء خرائطهم الجديدة.

تلك التي لا حدود فيها، هي من تتّسع لحوارايات الجهات، من تغفو بين يدي المديح، فمديح المقاوم، قصيدة إليه، وثقافة عشبة، يعرف الخلود الطريق إليها.

الكتابة وصال. فكم أنجبت من رحم شغفها، طفولة الأفكار، علّها تستعيد زمن البراءة، علّها تأخذنا بكلّية الحواس إلى أنينها الناحل، إلى رهافة فكرة، علّ حالتها، فطريتها، كما ليمونة وجدت تواً في رحلة من أعياهم البحث، تركض صهيلاً في عروقهم، فينتفض دم الخريطة ملوّناً الروح بالحنّاء. هو شأن الكتابة في أزمنة وليدة، أن تأتي بالمستحيل إليها، ليجثو على تخومها القصيّة ويقول بملء الرؤية ها أنا ذا أولد الآن كأني، لم أولد من قبل.

فما تبثه الكتابة في أكثر لحظاتها هو استشراف لآتٍ من الغياب المستحيل، هو الكامن في عروق السحاب، المنتصب أرضاً لجنوب الجنوب ونجماته اللاتي بسطن على راحة الروح وريحان الكلام.

ثمة ما يشي بالنثر الطليق من أغان حادية للركب واسعة الضفاف، عظيم نهرها حينما يجري بمداد العيون، التي لا تكلّ أن تحوط أشجاراً كثيفة انتظرت هناك ولم يملّها الانتظار، فإلى البعيد القريب مشت قلوب حافية على أيامها، ويحوطها دفء تليد، وهي من لم يشبّه لها أن الطريق تطول، أو أن الطريق تميل.

ذات كتابة، باح إشراقها بالممكن من الحلم، إذ إنّ الممكن من الحلم هو الحلم ذاته، من أراد الوصول، قد وصل، وأن في الدرب إلى الجنوب، جنوب من الكلام المشتهى، في الأسماء والأمكنة وعبير إبداع ما تجلّى في راهن الوقت، وفي الذكريات/ الغد، وأن من وصل فقد رأى وأطل من علياء الكلم، ليظل البوح ترنيمة العشاق في جمهرتهم وفي انتخاب ما يستطيعون من حياة تستحق عيشها.

قال الجنوب: إني الجهات، فإن تطلّون عليّ، ذهبتم في المرايا الصادقة، أقماراً لا حدّ لها، ولا اكتمال لها، سوى بالضوء البصير، لتشفّ عتمة المرحلة.

كاتب فلسطينيّ سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى