ترامب يربط بين شطب قضية فلسطين وتحجيم إيران
د. وفيق إبراهيم
لا يخلو تصريح للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب من لازمتين ثابتتين: التأييد المطلق والاستراتيجي لـ«إسرائيل»، والاستعداء «الاستراتيجي» لإيران وصولاً إلى حدود اتهامها برعاية الإرهاب وإثارة الصراعات في الشرق الأوسط والسعي إلى امتلاك سلاح دمار شامل.
وهذا التلازم ليس عملاً انفعالياً، كما يتوهّم بعض المراقبين، بدليل أنّ ترامب لم يتورّع عن إعلان توجّهه لنقل سفارة بلاده من «تل أبيب» إلى القدس، من دون أن يرفّ جفن للقادة العرب، وله شخصياً. على الرغم من أنّ مثل هذا العمل يثير نقمة مليار وخمسمئة مليون مسلم يعتبرون المسجد الأقصى في المدينة المقدسة أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين الشريفين، ويصرّون على عروبة القدس وإسلاميّتها ومسيحيّتها في آن معاً.
لماذا يتبنّى ترامب إذاً هذه الوجهة الخطيرة؟ هناك أسباب أميركية وعربية وإيرانيّة في وقت واحد، تخلق «الظروف الموضوعية» لكي يرضي ترامب الخط «الإسرائيلي» في أميركا. فالمعروف أنّ قسماً هامّاً من سادة الإمبراطورية الاقتصادية الأميركية هم من اللوبيات اليهودية، ويسيطرون على الصناعات والإعلام، ويقسّمون أنفسهم بين أغنياء في الحزب الجمهوري والمحافظين الجدد، وبين منتسبين إلى الطبقة الوسطى يؤيّدون الحزب الديمقراطي. وهكذا يمسك اليهود بالقرار السياسي في البيت الأبيض، مهما كان انتماء سيده.
ولأنّ الرئيس الأميركي الحالي يشكّل جزءاً من الفئة الأكثر ثراءً في الجمهوريين، ويعرف أنّ العولمة في بداياتها كانت نعمة على الاقتصاد الأميركي، لكنّها أصبحت نقمة بعدما أتاحت لعشرات الملايين من الأجانب الدخول إلى الجنة الأميركية. كما فتحت أبوابها لكلّ أنواع السلع الرخيصة الثمن، التي غزت أسواقها وأدّت إلى كساد البضائع الأميركية الصنع. الأمر الذي أدّى إلى إقفال مؤسسات وإحداث بطالة مرتفعة المعدلات تهدّد الاستقرار الأميركي السياسي.
هذا التطابق في المصالح بين أصحاب الصناعات ومراكز الإنتاج من الأغنياء اليهود والبيض أنتج تشابهاً في المصالح السياسية إلى حدود التماثل في الداخل الأميركي والخارج، دافعاً في اتجاه إعادة إنتاج الإيديولوجيات القديمة القاسية التي كانت تسود أميركا في القرنين 18 و19، وقاعدتها العنصرية البيضاء والرأسمالية المتوحّشة، وبذلك تتّجه الولايات المتحدة إلى إلغاء جهود قرن كامل من البناء السياسي في العالم، نجحت فيه واشنطن ببناء كرة أرضية موالية لها بالحنكة والقوّة والعمل الدبلوماسي والعسكري والمخابراتي والاقتصادي، ولأنّ «إسرائيل» تعتبر إيران العدو الفعلي لها، الذي يؤرق حاضرها ومستقبلها ويهدّدها على المستوى الوجودي، فقد دفعت بالتحالف بين لوبياتها الأميركية والبيت الأبيض إلى إعلان سياسة استعداء كاملة لإيران على المستويات كلها، مع السعي إلى إلغاء الاتفاق النووي معها والعودة إلى سياسات الحصار والمقاطعة والتهديد.
ولكن كيف يتجرّأ رئيس أميركي على التوغّل بعيداً في تأييده لـ«إسرائيل»؟ وهنا تتدفّق الأسباب العربية، فالدولة المصرية رحلت إلى «إسرائيل» منذ 1979 ولم تعُد بعد، وأخذت معها الأردن والسلطة الفلسطينية وقطر والمغرب، إلى أن ظهر تيار خليجي تقوده المملكة العربية السعودية حوّل الصراع التاريخي مع «إسرائيل» صراعاً مفتوحاً مع إيران، بحجّة أنّها تهدّد أمن المنطقة. وعند هذه النقطة حدث الالتقاء التحالفي بين السعودية والإمارات وقطر و«إسرائيل»، على قاعدة اعتبار إيران عدوّاً مشتركاً، لأنّها تبني أسساً قوية في منطقة تمتدّ من آسيا الوسطى إلى البحر المتوسط، في إطار أهداف متعددة، أولها رفض الهيمنة الأميركية على المنطقة، تحرير فلسطين، والعودة إلى الشورى في الإسلام على طريقة الانتخابات الشعبية التي تجري في إيران.
والنموذج العربي الذي دعمته إيران هو حزب الله الذي استطاع إنتاج مقاومة حديثة حرّرت جنوب لبنان من الاحتلال «الإسرائيلي» بين 1983 و2000، وعاودت طرده في 2006، وتقاتل حالياً للدفاع عن خط المقاومة المناهضة لـ«إسرائيل» في سورية والعراق واليمن. وبالاستنتاج، يتبيّن أنّ أميركا استفادت من العداء الخليجي لإيران، والانهيار الفلسطيني و«الاغتراب» المصري نحو «إسرائيل»، حتى تضع سياسات جديدة تقوم على أساس إلغاء القضية الفلسطينية. وهذا يتطلّب إلغاءً كاملاً للقوى التي لا تزال تحمل شعار تحرير فلسطين، وأولها إيران وحزب الله.
وبالتشريح، فإنّ مجمل العناصر التي كانت تواصل إحياء قضية فلسطين، يبدو أنّها تتساقط تباعاً. فالضفة الغربية تتعرّض لأقسى تدمير ديموغرافي وجغرافي عنوانه تسعير حملة استيطان «إسرائيلية» جديدة مدفوعة من ترامب، لا يقف مداها عند حدود ومدى، وتقوم على أساس تحويل الضفة الغربية رقعة شطرنج متناثرة لا قيمة لها في التفاعلات الاجتماعية بين فلسطينيّيها. وبهذه الطريقة تخسر التفاعلات السياسية أيضاً وإمكانية الجهاد العسكري. الأمر الذي يطيح بفكرة تحرير فلسطين، وصولاً إلى نسف مشروع الدولتين «الهجين». وهذا ما يريده اليمين «الإسرائيلي» ومعه «حاخامات» العرب من الخليج، الذين لا تتورّع وسائل إعلامهم التلفزيونية عن الجهر بأنّ بلادهم أعطت الفلسطينيّين كلّ شيء. وهم أصبحوا بالتالي عاجزين عن فعل أيّ شيء لهم قبل التصدي «لخطر إيراني» يزعمون أنه أكثر خطراً من «إسرائيل». وهنا تكمن اللعبة الأميركية! تجميع العرب إلى جانب «إسرائيل»، وإنهاء القضية الفلسطينية على قاعدة تبادل أراضٍ بين الضفة وصحراء النقب، وإنشاء دويلة فلسطينية فولكلوريّة تعتاش على «حسنات» الأجاويد وترعاها «الشقيقة إسرائيل».
والمطلوب أميركياً، تحشيد دول عربية وإسلامية في إطار حلف له مهام آنيّة وآجلة. أمّا الآنيّة، فمحصورة بتحجيم إيران لإنهاء الأساس الإيديولوجي لمشاريع التصدّي للنفوذ الأميركي، لأنّ واشنطن تعمل على أسس جيوبوليتيكة تقرأ المستقبل بعيون المصالح الاقتصادية التي لا تحميها إلّا الهيمنة السياسية والحروب. لذلك ترى واشنطن أنّ الدور الإيراني يذهب في اتجاه تأسيس الظروف التاريخية لإنشاء حلف يجمع بين «روسيا العسكرية» و«الصين الاقتصادية» و«إيران الصاعدة» وسورية والعراق! ومثل هذا الحلف يتمتع بأهميات استراتيجية ضخمة على مستويات القوة كلها، ومنها أهمية الموقع الاقتصادي والقوة العسكرية. هذا ما يخيف واشنطن ويرعبها، لذلك نراها تغازل مصر وتهدّد بـ«إسرائيل» وتبتزّ الخليج وتحاول تحييد روسيا بمحاولات إثارة شهيّتها في سورية وأوكرانيا، ولا تعادي بشكل صريح ومكشوف إلّا إيران والصين.
وواشنطن التي أسهمت في سبعينيات القرن الماضي في إنشاء منظّمة «القاعدة» الإرهابية بالتعاون مع المخابرات السعودية، والتي لا تزال تستثمر في هذا الإرهاب عن طريق دعم انتشاره في سورية والعراق واليمن، تزعم اليوم أنّها تريد استئصاله لسببين: أصبح يهدّد أصدقاءها العرب في الخليج وأوروبا، حتى وصل إلى الأميركيّتين واستراليا. بمعنى أنّ فائدته السابقة في زعزعة أعداء أميركا تحوّلت وبالاً على الغربيين أنفسهم على طريقة من يربّي نمراً ليصطاد به، فيصبح صيداً له في خاتمة المطاف.
لمجمل ما تقدّم، يظهر أنّ استهداف إيران على صلة بنيوية بقضية فلسطين والصراعات العالمية، والعرب كعادتهم يلعبون دوراً أساسياً في خدمة «راعي البقر الأميركي» الكاوبوي ، يقدّمون أموالهم وأراضيهم في أهداف يعتقدون جزافاً أنهم مستفيدون منها. لكنّهم سرعان ما يكتشفون أنّهم أدوات صغيرة يستعملها «الغربي» ويرميها عند نفاذ وظيفتها، كما فعلوا في الحرب العالمية الأولى عندما هزموا العثمانيين وطردوهم من الجزيرة وبلاد الشام ومصر بواسطة العشائر العربية التي كان يقودها الهاشميّون.
إنّ عودة المنظمات الفلسطينية من حماس و«الجهاد» وفتح وغيرها إلى تحرّك عسكري وسياسي من شأنه المساهمة في كشف الخطة الأميركية الخليجية قبل فوات الأوان، لأنّ المؤشرات الدولية تدلّ على أنّ قضية فلسطين تجتاز مرحلة مصيرية في ظلّ التواطؤ العربي والإسلامي مع سياسات ترامب، والتحالف مع «إسرائيل» في وجه إيران التي قدّمت الكثير للمنظّمات الفلسطينية التي لا يعتقد أحد أنّ بإمكانها أن تكون كحاكم السودان عمر البشير، الذي يبيع أيّ شيء في سبيل استمراره في رئاسة بلاده.
ولا بدّ في الخاتمة من تأكيد أنّ تحالف القوى المناهضة للمشروع الغربي الخليجي «الإسرائيلي»، يبقى الأقوى لأنّه يمثّل قضايا محقّة تدافع عنها شعوب اعتادت على الصبر والكفاح في آنٍ معاً.