تاريخ لبنان الأكاديمي بمعزل عن فلسطين والشام
د. أسامة سمعان
تواجه مادة التاريخ في المنهاج الأكاديمي اللبناني، وهي مادة أساسية في التوجيه والبناء الثقافي الوطني، أزمة حقيقية تتمثل في الحذف والاختزال من قبل المركز التربوي للبحوث والإنماء، لمواضيع أساسية ومحورية في تاريخ لبنان، وتمّ تعميمه على أساتذة المادة في الثانويات الرسمية والخاصة للشهادتين المتوسطة والثانوية.
ما جرى تداوله مع الأساتذة في اجتماعات عامة هو إبلاغهم عن المزيد من الشطب والإلغاء من المادة، وهذه سياسة دأب المركز التربوي للبحوث والإنماء على القيام بها منذ مدة طويلة كان آخرها هذا العام وقبلها في العام 2000/2001.
اللافت هو إشكاليات ثلاث قطعها هذا القرار وصولاً إلى مرحلة التنفيذ، وذلك من دون نقاش مع أصحاب الاختصاص أكاديمياً ومع القوى السياسية، التي من الضروري أن يكون لها رأي في ما قرّرته الوزارة والمركز التربوي للبحوث والإنماء على السواء، الإشكاليات الثلاث هي: موضوع فلسطين، العداء للاستعمار ولإسرائيل، والعلاقة مع سورية.
تضمّن المنهاج المقرّر لطلاب الشهادتين المتوسطة والثانوية تكوين نظرة أولية عن كيفية وقوع جلّ العالم العربي تحت الاستعمار الغربي منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر ولغاية نهاية الحرب العالمية الأولى، باستثناء بعض الدول العربية مثل: الكويت، والإمارات والبحرين، وعُمان، وقطر، واليمن، وجزر القمر، وموريتانيا، والصومال، وجيبوتي. وكيف تحرّر هذا العالم من الاستعمار والظروف التي رافقت التحرّر. وكان طبيعياً أن يتضمّن المنهاج دروساً على أوضاع الدولة العثمانية في العالم العربي والتحوّلات الداخلية التي أدّت إلى انهيارها وجلاء جيوشها عن منطقة آسيا العربية.
ولكن مركز البحوث بدلاً من إضافة دروس عن الدول التي استقلت تباعاً بعد وضع المنهاج، عمل مع وزارة التربية على تقليص الدروس فشطب فلسطين والأردن من منهاج الشهادتين، وشطب كلّ الدروس المختصة بالدول العربية من الشهادة المتوسطة في العام الدراسي 2000/2001.
هذا العام، شطب مركز البحوث مسائل مهمة من تاريخ بعض البلدان العربية، وأبقى على مسائل مهمة أخرى، ولكن طريقة الإلغاء أخرجت ما تبقى من سياقه التاريخي فأصبح بلا قيمة تربوية. كما في درس سورية حيث أبقى منه فقط الثورة السورية الكبرى والمعاهدة السورية – الفرنسية، وكما في درس العراق حيث أبقى من الدرس على الثورة العراقية 1920 والمعاهدة العراقية – البريطانية 1930.
لو سأل القيّمون على مركز البحوث أحد المختصين بتاريخ لبنان عما إذا كان ممكناً كتابته بمعزل عن محيطه القومي، لا سيما سورية وفلسطين، لأجابوهم باستحالة ذلك في الحقب التاريخية كلها التي تمتدّ منذ فجر التاريخ ولغاية اليوم، ومن ضمنها الفترة التي استحدث الغرب الاستعماري لبنان في العام 1920.
كيف لكاتب أن يكتب تاريخ لبنان منذ عهد الإمارة ولغاية عهد المتصرفية أن يغفل الجاذب الدمشقي أو العكاوي، ألم تكن إمارة جبل لبنان، تتنقل من جاذب إلى آخر، حسب قوة الوالي في كلّ من عكا ودمشق؟
ألم يصدر صك الانتداب عام 1922 شاملاً سورية ولبنان حيث كان لهما مفوض سام فرنسي واحد طيلة 24 عاماً، انتهت بالاستقلال عام 1946؟
ألم يقع لبنان في الجاذب السوري في الفترة الشهابية، التي بدأت عام 1958 واستمرت حتى عام 1970، ليقع في الجاذب الفلسطيني، منذ عام 1970 ولغاية عودة لبنان إلى الجاذب السوري عام 1976، إبان دخول الجيش السوري أراضيه بفعل ما عُرف بالمبادرة السورية لوقف الحرب الأهلية وحماية الثورة الفلسطينية حتى خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005.
لماذا إغفال كارثة فلسطين وقيام الكيان الصهيوني بشنّ الحروب العديدة على لبنان منذ العام 1948 ولغاية 2006. تاريخ هزيمته للمرة الأولى على يد لبنانيين مقاومين؟
كيف لمركز البحوث أن يشطب من منهاجه كارثة فلسطين، وتداعياتها على لبنان، في وقت يعيش على أرضه نصف مليون فلسطيني في المخيمات منذ العام 1948 ولغاية اليوم! وكيف له أن يشطب سورية في وقت يعيش على أرض لبنان حوالي مليوني سوري، بسبب الحرب الأهلية التي تعصف فيه؟
غريب أمر مركز البحوث والذهنية التي تتحكّم به، والتي تريد أن تصوّر وعد كليمنصو للبطريرك الياس الحويك وكأنّ لبنان قطعة من أرض فرنسا طارت بالهواء ورست على شاطئ سورية وليس لبنان جزءاً منها.
إنّ ما جرى ويجري من إغفال عن قصد أو غير قصد لا بدّ من إخضاعه للنقاش، إذ لا يجوز مطلقاً أن يمرّ مروراً عادياً، في أجواء من إخفاء الحقائق والوقائع، ناهيك عن الاستخفاف بمادة التاريخ التي تحظى بأقلّ مقرّر من العلامات بين جميع المواد، وهذا ما يدعو إلى عقد جلسات حوارية متتالية نقرّر من خلالها أيّ مواطن نريد وأيّ جيل نريد، لأنّ الجيل الذي لا يعرف تاريخه هو بعيد كلّ البعد عن الوعي الذي هو أساس المعرفة.
أستاذ سابق في مادة التاريخ للمرحلة الثانوية والمتوسطة ومحاضر جامعي